وهو من أخطر الأمراض التربوية التي أُصيب بها نظامنا التعليمي. إن الكذب باللسان هو "مخالفة ما تعلمه من الواقع عمداً"، الكذب هو أن يكون ظاهر الشيء لا يعكس باطنه، أو أن يكون باطن الشخص غير ظاهره.
عندما يكذب عليك أخ لك، وتكتشف أنت ذلك فما يكون موقفك؟ قد تتألم وتشعر بمشاعر تختلف من شخص لآخر، ولكن ما يشترك به معظمنا هو أن ثقتنا بهذا الأخ تقل، وكلما تكرر الكذب كلما تضمحل الثقة بينكما. من الممكن أن تغفر لأخيك الكثير من العثرات، ولكن عندما تضمحل الثقة بينكما ستضعف علاقتك معه كلها. إن الثقة عنصر أساس في التفاعل الإنساني إن لم نقل أنها من أهمها. فالثقة مطلوبة بين الزوجين والشريكين والأخوة، فكر معي، عندما تقل الثقة في أي من هذه العلاقات قد يؤدي ذلك إلى انهيار العلاقة برمَّتها، والعكس صحيح، فكلما كانت الثقة أكبر كلما توقعنا نتائج أفضل من العلاقة، وهنا تكمن أهمية مرض الكذب في نظامنا التعليمي.
سأكتفي هنا بطرح الأسئلة كدعوة للتفكير، دون إقرار أي شيء مما سيأتي. وهذه الأسئلة لا تعني أبداً التعميم على كل المعلمين أو المدربين أو أي فرد من العاملين في المجال التعليمي، وأرجو ألا تأخذ الموضوع على محمل شخصي. ولنبدأ بالمعلم أو المدرب، لن نسأل عن معرفته لذاته من أي أتى؟ وإلى أين هو ذاهب؟ ولماذا هو هنا؟ بل سنكتفي بأسئلة أقل وطأة: هل هو صادق بمهنته؟ أم أنه وجد نفسه معلماً ولابد أن يتعيش من مهنته هذه دون التمكن منها؟ هل يعلم دوره الحساس في العملية التعليمية؟ هل يطلع على آخر الأبحاث المتعلقة بالتعليم؟ بالدماغ؟ بالتعامل مع تنوع المتعلمين؟ بالذاكرة والتذكر؟ هل يعلم أن أية علامة متدنية لأي من متعلميه هي حقيقة علامة متدنية له هو، وأنه هو المسؤول الأول عن رفعها؟ هل يتحرى مصادر ما يقوله (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع)؟ وفي حال معرفته بهذا فهل يطبقها في الصف؟ هل يهتم برأي مديره أكثر من اهتمامه بآراء متعلميه؟ هل هو معلماً حقاً أم أنه يدعي بأنه معلم؟
وإذا رجعنا إلى مناهجنا، فهل تعكس بداية احتياجاتنا كأمة؟ هل تلبي احتياجات المتعلم الفكرية والبصرية والسمعية والحسية والروحية؟ وهل هي مُصاغة بطريقة صافية تؤدي المطلوب منها فقط؟ أم أنها تتميز بالحشو؟ هل تتماشى مع تقنيات عصرنا؟ وهل هي صادقة بمساعدة المتعلم في الانتقال إلى الحياة الواقعية بجدارة؟ أم أننا ما زلنا نسمع عن الفجوة الكبيرة بين التدريس النظري وعالم الواقع؟ هل هي مناهج كاذبة أم صادقة؟
أما العاملون في النظام التعليمي من موجهين ومدراء ومصممين وغيرهم، فهل يعلم كل منهم دوره الحساس في دعم أو هدم العملية التعليمية؟ أم أنه يمارس دوره الوظيفي كي يحصل على راتبه فقط؟ هل يهتم كل منهم برأي مديره أكثر من اهتمامه بالعملية التعليمية؟ هل هم صادقون في القيام بمسؤولياتهم؟
وأخيراً، المتعلمون، الضحية الأكبر لنظامنا التعليمي، والأمل الوحيد في نهضة أية أمة، هل يتم تعليمهم كيف يصدقون؟ أم أنهم يتشربون أساليب الكذب وفنونه ضمن هذه البيئة المزيفة من معلمين وإداريين ومناهج؟ إذا سألتني عن أهم شيء يتعلمه ابني في المدرسة لقلت لك: الصدق بداية. فكيف يمكن أن نتعلم الصدق من كاذب؟
وما هي نتيجة هذا الكذب إن كان موجوداً بنسبة ما أو بأخرى؟ ألا تتفق معي أن النتيجة الأكبر هي انعدام الثقة بين المعلم والمتعلمين، وانعدامها بين المتعلمين وكافة أطراف النظام التعليمي؟ أسألْ المتعلمين كم منهم لديه ثقة بالعملية التعليمية وأطرافها؟ وستجد الجواب يأتيك واضحاً. وعند انعدام هذه الثقة تستطيع أن تتوقع مستوى التعليم الذي يحصل عليه متعلمينا. وستجد كماً كبيراً من التشكيك بكل شيء تقريباً، وهو ملتزم بالمدرسة أو الجامعة أو التدريب لأنه ملزم بهذه العقوبة الإلزامية ولابد له من إنهائها كي يحصل على شهادة تفيده في إيجاد عمل أو ليتقبله المجتمع فرداً فيه.
عندما يتخرج أي متعلم من الجامعة يحصل على شهادة تخرجه، والتي تنص على أنه اجتاز كل المراحل اللازمة كي يحصل عليها، بمعناها الحقيقي هي شهادة تؤكد على أنه أصبح مهندساً إذا كان يدرس الهندسة مثلاً، بدليل أن كل مؤسسات الدولة تعترف به، ويبدأ بدخول سوق العمل اعتماداً على هذه الشهادة. ولكن الغريب أن الكذب ينكشف بسرعة عندما يكتشف أن ما تعلمه في جامعته بعيداً جداً عن سوق العمل وأن عليه أن يتعلم من جديد في المؤسسة أو الشركة التي بدأ العمل فيها! ألا تجد أن نظامنا التعليمي يدفعه كي يحصل على شهادة زور؟ لأن هذه الشهادة بمعناها الحقيقي تعني أنه أصبح أهلاً بالرغم من تكذيب الواقع لهذا. ماذا تتوقع إذا كنا ندفع أبناءنا كي يحصلوا على شهاد زور؟
الترياق:
"إن الصدق إكسير يقلب عين الأشياء"، أعتقد أننا قرأنا كثيراً عن فوائد الصدق ومساوئ الكذب، بل ستجد أن تراثنا تحديداً مليئاً بآلاف الإثباتات والقصص على أهمية صدق الإنسان، وأن الكذب رزيلة من أكبر رذائل المجتمع. إنها دعوة لي قبل أن تكون لأي شخص آخر كي أعود إلى كافة سلوكياتي من أجل اكتشاف الكذب فيها كي أقوم بقلبه صدقاً، دعوة لي لأكون صادقاً في مهنتي وفي اطلاعي على أحدث ما وصلت إليه الأبحاث في موضوع اختصاصي، وتطبيقها مباشرة على أرض الواقع. دعوة لي ألا أحدِّث بكل ما أسمعه قبل التأكد من دقة وصحة مصادره، كي أعود لأضع المتعلم الهدف الأول لي في العملية قبل رضا مديري أو حتى الشركة التي استقدمتني لأدرب كادرها، دعوة لي كي أركز على المتعلم أولاً وأخيراً لا أن أركز على إنهاء كتيب المادة في الوقت المطلوب (لابد من إنهاء المادة ولكن بشرط رضا المتعلمين وفهمهم لها وتمكنهم منها)، دعوة كي أتميز في مهنتي شرط ألا يكون التميز بحد ذاته هدفي، بل الهدف الأساسي أن أكون صادقاً فيما أقوم به.
بعد هذا العرض الموجز لما سميناه مجازاً "مرضاً تعليمياً تربوياً" يصبح واضحاً أن ما يعطي هذا المرض قوته هو تحوله إلى بديهيات في التعليم، واعتباره الشكل الذي كانت عليه الأمور وستستمر عليه. إننا بدون شك بحاجة إلى ثورة حقيقية للتخلص من هذه الأمراض التي حولت التعليم إلى عملية غير فعالة، وغير طبيعية كئيبة وصعبة، حولت المعلم إلى مركز العملية، وحولت المتعلم إلى مستهلك دون إبداع. وحولت بيئة التعليم إلى سجن مخيف ينتشر فيه الملل والكآبة والخوف، وحولتنا كبشر إلى معاقين تعليمياً.
إذا استطاع الطبيب تشخيص المرض وصل إلى نصف الحل وهان عليه وصف الدواء. وفي حال اهتمامك بالتعليم وتحسينه فلابد أن الكثير من الأمراض الواردة سابقاً وطرق علاجها أصبحت واضحة لديك، وعلينا الآن البحث عن آليات لتطبيق ذلك على أرض الواقع، وهذا ما ستجده في كتاب "التعلم الطبيعي- التعلم السريع".
الدكتور محمد ابراهيم بدرة
دار إيلاف ترين للنشر، كتاب التعلم الطبيعي، النسخة الأولى، المؤلف الدكتور محمد ابراهيم بدرة، 2012.