يُوصَف كثير من التلاميذ بالمخفقين مع أنهم ليسوا كذلك، بل لأنهم لا يتاح لهم الوقت الكافي لإتمام ما يطلب منهم، فتكون النتائج مدمرة لهم ولذويهم. هكذا يرى الأستاذ فرانك سميث، الذي ألّف كتاباً في التعلُّم واللغة والتفكير (Kappan, April 2001)، ويضيف: إنني مثل كثير من الناس أعرف طفلاً، ولنسمه جون، يعاني من هذه الوصم مع أنه لا شيء غلط أو أعوج فيه، إلا أن إدارة مدرسته تخضعه لكل أنواع الفحوص والتشخيص والنتائج والاستنتاجات المبنية عليها وتضعها في سجله أو ملفه.
كما تضيف إليها وصمة قد تدمر مستقبله ورؤيته لنفسه، وهي أن جون لا يستطيع الاستمرار في المدرسة (يكتفي بتعليمه كما يقال في بلادنا) وهو التعبير المؤدب من بين التعابير الكثيرة التي تصف بها جون من مثل أنه بطيء التعلُّم، أو أنه يعاني من صعوبات في التعلُّم، أو أنه يتمارض، أو قليل الدافعيَّة، أو مشتت الانتباه وهكذا. وعندما تلتقي جون تجد أنه قلق جداً من هذه الصفات لأنها تحط من قدره، وتديم شكواه من الإحباط الصفي، ومن التقاء المداهنة والتملق والتهديد التي يستخدمها والداه المحاصران وإياه بتلك الوصوم. ولأن جون قلق، نتيجة لذلك كله. تصفه المدرسة بالمختل عاطفياً وسلوكياً.
وعلى الرّغم من محاولات جون تجاوز هذه الوصوم أو الصفات السلبيَّة، فإنه لا يقدر لأنه يتخلف عن زملائه بالواجبات المعطاة له في كل مرة، فيُتوقع منه جهداً يزيد عن جهد زملائه من جهة، فيصبح الجهد المطلوب منه أشد من الجهد المطلوب منهم من جهة أخرى. وهكذا يحصل على انتباه وثناء أقل من زملائه من قبل المُعلِّم، فيراجع مرشد كل أسبوع. ومع هذا يراوح جون مكانه لأن أمثاله من التلاميذ يُغضبون المُعلِّمين والمُعلِّمات.
آخر نتائج جون المدرسيَّة مملوءة بتقديرات (د) وتعليقات سلبيَّة وطلبات تبدأ بعبارات مثل: يجب عليه. إنه يحتاج إلى...، وينبغي أن ...، أو بعبارات مهينة مثل: صعوبات كبيرة، ومشكلات كثيرة، واستراتيجيات محدودة، وإشارات مُتعدِّدة، تؤكد كلها عجز جون عن فهم المطلوب منه. لكن الغريب أن النتيجة المدرسيَّة لا تتضمَّن إشارة واحدة إلى المدرسة وأنها ستعمل شيئاً لمساعدته وجعل ما يطلب منه مفهوماً عنده. إذا وجد جون أن العمل المدرسي صعب فهي مشكلته لا مشكلة المدرسة ، وعلى والديه الاعتراف بتسلّم نتيجته المدرسيَّة وبالتعليق عليها إذا أرادا على الرّغم من وجود ملاحظة في أسفلها تذكرهما بأن النسخة الأصلية منها سيتم الاحتفاظ بها في سجل جون المدرسي مدة خمس سنوات بعد تركه المدرسة، مما يعني أن كل معلم أو معلمة يمكن أن يطلع عليها ويقرأ عيوبه كما تراها المدرسة أولاً وأخيراً.
ويضيف الأستاذ سميث: لا أحب التفكير فيما يمكن أن يحدث إذا ظل جون غاضباً من إساءة المدرسة إليه، أو إذا أصبحت فكرته عن المدرسة سلبيَّة كفكرتها عنه. يبدوا أنه مثلما توجد هوة بين الأغنياء والفقراء والأقطار الغنية والأقطار الفقيرة، توجد هوّة وفي اتساع مستمر بين الطلبة. وبمرور الوقت يصعب على الطلبة الفقراء في التحصيل سدّها.
ومع ذلك فإنني لا أرى في قصة جون سوى مشكلة واحده: أنه في حاجة إلى مزيد من الوقت ليلحق بالركب. لو أعطي جون مزيداً من الوقت لكان في إمكانه عمل كل شيء يعمله بقية زملائه. إنني بذلك لا أعتقد أن جون مقصّر لأنه يحتاج إلى المزيد من الوقت ،فكل البشر يتحركون بسرعات مختلفة في الأعمال المختلفة. فنحن جميعاً نختلف في كميَّة الوقت اللازم لنوم كل منا ليلاً (وموعد اليقظة صباحاً) أو لتناول وجبة، أو للمشاركة في نقاش، أو لقراءة كتاب، أو لكتابة رسالة، أو لمشي ميل، أو لتعلم مهارة ما. إن بعض الناس أسرع من بعض آخر في أمور معينة، مما يعني أن أولئك أبطأ من هؤلاء في أمور أخرى وهكذا. ولكن حتى لو كان لجون مشكله فإن العلاج يبقى هو نفسه: إعطاء جون مزيداً من الوقت.
إن الحاجة إلى مزيد من الوقت مسألة عالميَّة، وإن كثيراً من الراشدين مبتلون بها. ولكنهم يهربون عادةً من ضغوطها ولو فترات قصيرة. أما جون فلا سترة عنده للنجاة منها. إن عليه الذهاب إلى المدرسة حيث التخلف عن زملائه مجازفة. وعليه كذلك أخذ العمل المدرسي الذي لم يكمله فيها معه إلى البيت لإكماله، مما يقلص وقت اللعب الذي يمكن أن ينفّس به عن غيظه واحتقانه.
إن المدرسة (للأسف) تتوقع من جميع الطلبة وعلى اختلاف أعمارهم وقدراتهم بلوغ أهداف وأوضاع اعتباطية في الوقت نفسه. كما تضعهم في إطار علاقات تنافسيَّة تقسمهم في النهاية أو جميعاً إلى فائزين وخاسرين. أي إلى وضعٍ قابل للتنبؤ به (سلفاً). لكن لماذا لا تعطي المدرسة لجون مزيداً من الوقت؟ لماذا يكون الوقت المعطى له قليلاً؟
العذر الأول المتمثل في الإجابة عن السؤال الأول يعيد طرح المشكلة: إن اليوم المدرسي والسنة المدرسيَّة منظمان بدقة فلا يبقى للمدرسة مزيد من الوقت لإعطائه لجون وأمثاله. إن إعطاء جون وأمثاله مزيداً من الوقت في مادة ما يعني تقليصاً لوقت مواد أخرى. يجب أن يتم كل شيء في وقته المحدد له.
وكما ترون فإن من الصعوبة بمكان العثور على وضع مماثل لهذا الوضع خارج المدرسة، فالطائرات تتأخر في الإقلاع والسفن تجنح، والباصات تنحرف عن الطريق، والقطارات تتصادم، ...، ومع هذا يتغلب نظام النقل على الصعوبات جميعاً. والقضاة يتوعكون، والشهود لا يـأتون، وملفات المحامين تضيع، ومع هذا يظل النظام القضائي يعمل. كما تلغى حفلات الموسيقا، وتضرب الأعاصير، وتخفق الأعمال، وتهتز الإمبراطوريات، ولكن الحياة تستمر. والضحايا إن لم يحصلوا على المساعدة يحصلون على العطف والشفقة على الأقل. ولا يُعَدُّون بحالٍ مسؤولين عن سوء حظهم.
إن القول بعدم وجود متسع من الوقت لجون يجعل المشكلة واضحة. فجون ليس هو المشكلة. بل هو ضحية للطريقة التي ينظم فيها نظام التعليم الوقت، فلا يبقى وقت كافٍ لجون وأمثاله. ولعل ذلك يشبه حرمان الطلبة من الهواء ثم لومهم على عدم أخذ نفس عميق.
أما العذر الثاني لوقت جون المحدود فيأتي من المعايير (Standards) أو الامتحانات الموحدة أو العامة فنحن نقول: يجب أن يكون لدينا معايير، لكن ما فائدة المعايير إذا كان يستحيل على بعض الناس بلوغها؟ هناك فرق بين تحديد الهدف العام الذي يمكن لكثير من الطلبة بلوغه، وبين مطالبة جميع الأطفال والطلبة بلوغ تلك المعايير في وقت مُحدَّد.
والمُعلِّمون والمُعلِّمات مقيّدون أيضاً بالوقت، فوقتهم مبرمج بمنهاج مفصّل وموزع باليوم والأسبوع والامتحانات المدرسيَّة. وعليهم التزامها. ولذا فإن من الطبيعي عند كثير منهم نقل ضغوط الوقت عليهم إلى طلبتهم ووالديهم. إن جون يمثل مشكلة لمعلمه، لكن جون ليس سبباً فيها. السبب هو القيود والضغوط الاعتباطية التي يفرضها النظام التربوي على المُعلِّم ويتوقع منه العمل في ظلها.
لطالما قيل إننا لا نستطيع إبقاء الطلبة ينتظرون إلى أن تلتحق بهم قلة من زملائهم ، لكننا عندما نتوقع أو نطالب بأن يتحرك كل واحد منهم بسرعة الآخر، فإن وقوع هذه المشكلة حتمي. وذلك يذكرنا بقواعد الحرب: إن سرعة القافلة البحريَّة تحددها السفينة الأبطأ. وفي أثناء القتال يصبح هجر السفينة الأبطأ أو إغراقها هو الحل الطارئ. إن البديل المنجي أو المفيد قبول وصول بعض السفن إلى الميناء بعد غيرها، والمطلوب عندئذٍ هو المحافظة على سلامتها وبحاريها. لكن لايصحّ أن يكون هذا النموذج مقبولاً في التربية والتعليم.
وفي أحيان أخرى يُدّعى أن بعض الطلبة يتخلفون لأنهم كسالى أو منحرفون، وأن عليهم أن ينهضوا. نعم إن هذا ممكن ولكن عَدَّ جميع الطلبة المتأخرين كسالى أو منحرفين ظلم. إنه عَدٌّ يجعل حياتهم أصعب. وجون من لا يعاني أية أوهام، إنه يحب اللحاق بالركب.
ويُدّعى أيضاً أننا نعيش في عالم شديد التنافس وأن على الطلبة إجادة مُتطلَّباته كجزء من التعلُّم. ولكن حتى إذا كان هذا الموقف قابلاً للدفاع عنه ، فإنه لا ضرورة لتحطيم أرواح التلاميذ ولما ينضجوا. لقد تبين أن الناس الأقدر على مواجهة نقص الغذاء هم الذي كانوا شبعى طيلة حياتهم، وليس الذين جاعوا بانتظام.
لنفترض لحظة أن جميع الطلبة أُعطوا الوقت الكافي والمساعدة اللازمة لإنجاز المتوقع مدرسياً منهم، يبدو أن هذا الحل المثال يثير أحياناً معارضة كبرى من قبل الجميع: فليس من الإنصاف إعاقة الطلبة الذين يستطيعون الوصول قبل غيرهم عن الوصول. لقد صادفت مثل هذا التسويغ في جنوب إفريقيا (قبل الاستقلال) فقد كان الطلبة السود متميزين في كل المواد ما خلا اللغة الإنجليزية الأكاديمية لأنه لم يكن لديهم وقت كاف لإنجاز واجباتهم وامتحاناتهم فيها. وعندما قلت للإدارة الجامعية: لماذا لا تعطونهم وقتاً أطول ؟ أجابوني: إن ذلك ليس من الإنصاف بالنسبة إلى الطلبة البيض. لكن هذا الجواب لم يكن مفاجئاً لي في بلاد التفرقة العنصرية (الأبارثيد) فهل يجب أن نواجه بمعارضة مماثلة في أمريكا (وغيرها)؟
ماذا يعني ذلك كله؟ إنه يعني أن الوقت في المدرسة قليل، لأنه مُحدَّد اعتباطاً. لا يحصل جون على وقت أطول لأن الذين وضعوا حدود اليوم المدرسي لا يعطونه إياه، ولأنه يتوقع منه إنجاز المطلوب منه في وقت أقل مما يحتاج إليه ويجند المُعلِّمون والمُعلِّمات والوالدان للمشاركة في تحمُّل المسؤوليَّة عن إخفاق جون. لقد أقنعوهم بأنَّ جون يستطيع اللحاق إذا حاولوا (وجون) ذلك. ويُذاع إخفاق جون وينشر بين الناس بكون المُعلِّمين والمُعلِّمات والوالدين مسؤولين أيضاً عنه.
ما العمل؟
مع أن النظام التربوي هو أساس المشكلة، إلا أنه من غير الواقعي توقع تغير النظام التربوي الإجمالي. كما أنه لن يتغير في الوقت المناسب لجون. لكن تغيير الاتجاه ممكن وضروري لتقديم نجدة فورية له، وبدء تحسين طويل المدى في نظام التعليم.
المتطلب الأول تغيُّر في الاتجاه نحو جون: يجب إزالة الوصم ويجب أن يكون الضغط عليه أقل كما يجب عمل كل ما من شأنه المحافظة على احترام جون لنفسه. لا يشعر الناس غير الرياضيين (مثل مايكل جوردن، ومايكل جونسون) بالخجل من هذه الحقيقة.
أما المتطلب الثاني فتغيُّر في الاتجاه عند المُعلِّمين والمُعلِّمات والوالدين. يجب على الوالدين ألَّا يشعروا بالذنب لإخفاق طفلهم في اللحاق بزملائه الأسرع منه. كما يجب أن لا يُعَدُّ المُعلِّمون والمُعلِّمات مسؤولين عن الأطفال الذين لا يستطيعون بلوغ الأهداف التي وضعتها سلطة ما ضمن برنامج زمني مُحدَّد، لأن الضغط غير المعقول على الوالدين والمُعلِّمين والمُعلِّمات يجد طريقه عادةً إلى الطفل الذي يجب أن يُحمى منه. إن توفير وضع مريح في المدرسة والبيت قد يساعد جون على تعلّم أفضل مما يتعلَّمه بالضغط.
تضع محنة مثل محنة جون في كثير من الأحيان الوالدين والمُعلِّمين والمُعلِّمات على طرفي نقيض أو صراع. لكن الاعتراف بالمشكلة يساعد الراشدين أيضاً لا جون فقط. وعندما يعمل المُعلِّمون والمُعلِّمات والوالدين يداً بيد فإنهم يجعلون النظام التربوي يتغير سياسياً وموقفياً.
يجب على المُعلِّمين والمُعلِّمات أن يحترموا جميع الأطفال لا حفنة منهم بدءاً من الاعتراف بأن الأطفال لا يُخيّرون بالنسبة إلى الذهاب إلى المدرسة. إن المدارس إلى الآن ليست مُؤسَّسات ديمقراطيَّة. فالحالة الوحيدة التي تصلح للموازنة بها في عالم الراشدين هي حالة السجون والتجنيد الإجباري. وبموجب القانون فإن عمل الأطفال ممنوع. لكن "العمل" هو أكثر سلطة في المدارس حيث يتوقع منهم العمل في ظروف (تُعَدُّ) بدائية. لو كانت موجودة في أماكن عمل الراشدين، فالأطفال لا يستطيعون عادةً التحدُّث مع جيرانهم أو التجول في غرفة الصف. ولا يستطيعون أن يأكلوا أو يشربوا أو يذهبوا إلى المرحاض عندما يريدون. كما يتم الحديث عنهم بشكل مهين وتمييزي يشكل إهانة أو تحدياً لحقوق الإنسان الراشد. إنهم يجبرون على التنافس والامتثال. ونحن نتكلم عن الأطفال والمراهقين في أكثر سنوات حياتهم هشاشة أو حساسية، أي وهم يكافحون لتحديد هوياتهم وعلاقاتهم بالمجتمع. إذا لم نستطيع تغيير النظام التربوي وجب علينا على الأقل الكفاح لحماية الطلبة ذوي الصعوبات فيه. وبدلاً من القول: نأسف أيُّها الولد أنت غير صالح للمدرسة، يجب علينا القول: نأسف أيُّها الولد لأن المدرسة لا تصلح لك. إنها غير قادرة على مساعدتك، وبذلك نعترف بالمشكلة.
لو كان النظام التربوي سليماً لما أخفق فيه أي طالب، لأن الإخفاق مفهوم غريب في النظام التربوي السليم. ويجب ألَّا يزيد لومنا للطفل المخفق في اللحاق بسربه عن لومنا لشخص فاته القطار الذي غادر المحطة.
نظرة طويلة المدى
ربما حان الوقت للنظر إلى التعليم بصورة ثورية جديدة. إن عمر النظام التربوي الحالي لا يتجاوز مئة وخمسين سنة، وقد نشأ في الوقت الذي أخذت فيه الصناعة تضع الدجاج في أقفاص صغيرة وقطعان المواشي في حظائر. لقد أخذت المدرسة شكل خط الإنتاج ولكن بمخلوقات حية كمواد خام، ظناً منها أن البدء بالطير أو الحيوان (أو الطفل) من الخط نفسه، ومعاملته بالطريقة نفسها، وبالرقابة والتحكُّم نفسيهما، يكون المنتج متماثلاً.
إن المدارس تتغيَّر باستمرار إلا أن هدف التغير هو جعلها كالمصانع أكثر تماثلية لا أكثر إنسانيَّة، ولعلَّ ذلك هو السبب في تركيز جميع الإصلاحات التربويَّة المركزية على الامتحانات والمساءلة. وفي أثناء اهتمام السياسيين بالكلفة والنتائج يحاولون جعل النظام يعمل بصورة أحسن لا بصورة مختلفة. ومنذ تم الأخذ بالفكرة الأصلية التي تقضي بتوزيع الطلبة على صفوف حسب السن أو القدرة المتوقعة، نسينا الغاية من المدرسة وكيف يتعلَّم الناس، فالناس يتعلَّمون بالممارسة وهي فكرة قديمة ما نزال نسلّم بها، فكل شيء نعمله يترك بصمته علينا (علّم يعلّم) لكن المشكلة أو الأزمة جاءت من الفكرة الجديدة المهيمنة على التعليم من البزنس والتي تدعي أن الناس يتعلَّمون باكتساب المعلومات.
لقد أخفق منحى التعلُّم باكتساب المعلومات لأن حفظ المعلومات عن ظهر قلب أصعب طريقة للتعلُّم والسبب الأكثر شيوعاً للنسيان. إن تعلّم المعلومات لا يضمن التذكر ومن المُؤكَّد أنه لا يؤدي إلى الحكمة. كما لا يساعد التلاميذ على تعلّم القراءة والكتابة والرياضيات أو أي شيء آخر ما لم يكن الفهم مرافقاً لها مما يجعل التكرار أو الحفظ غير ضروري. إن منحى التعلُّم باكتساب المعلومات يفترض أن الفهم لا محالة آتٍ أو تابع، مع أن العكس هو الصحيح .
إن الخبرة مصدر كل التعلُّم الذي نحصل عليه في الحياة سواء أكان مرغوباً فيه أم كان غير مرغوب فيه.ويتعلَّم جون من خلال تجربته في المدرسة ما لا يستطيع عمله أي الإخفاق. يحتاج جون بدلاً من ذلك إلى خبرات إيجابيَّة ومنتجة. لعلَّ أحد أهم أسباب التركيز الحاصل على تعليم أجزاء مبعثرة من المعلومات وعناصر معزولة من المهارات قابليتها للامتحان والعد. والفرق الرئيس بين منحى الخبرة أو الممارسة ومنحى المعلومات والمهارات أن الخبرة أو الممارسة لا تقاس بالامتحانات.
يجب ألَّا يكون المهم حفظ كميَّة محدودة من التاريخ والكيمياء والرياضيات والآداب. مُكوَّناتها اعتباطية دائماً. المهم أن يجد المُتعلِّم فرصة لتجربة أو معاينة التاريخ والكيمياء والرياضيات والآداب، إن تعلّم المهارات واكتساب المعلومات يأتيان من تطور الاهتمام بالموضوع. إن إجبار أي شخص على تعلم مهارات بدون اهتمام أو ألفة بالموضوع ينتهي عادةً بالإخفاق الدائم فيه والكراهية له.
ويحصل الطلبة المحظوظون من خارج المدرسة على فرص التعرُّف على القراءة والموسيقى والعلوم: من الفلك إلى علم الحيوان قبل أن تصبح هذه الموضوعات رسميَّة. إن أفضل المُعلِّمين والمُعلِّمات في المدرسة وخارجها هم الذي يجعلون المواد المدرسيَّة مثيرة أو محبوبة من الطلبة ومفهومة.
يجب أن تكون المدارس أمكنة لاكتساب الخبرات المثيرة، وبحيث يعمل العلماء (من الطلبة) بالعلم، والفنانون بالفن ...، ويتصرَّف كل منهم بطريقة ديمقراطيَّة ومدنية. ولا يحتاج جميع المُعلِّمين والمُعلِّمات لامتلاك المهارات نفسها لأنهم يستطيعون دعوة أفراد من المجتمع لصفوفهم والتعلُّم وطلبتهم منهم. المهم أو اللازم للمُعلِّمين والمُعلِّمات امتلاك قدرات اتصالية أصيلة في أنواع الخبرات المتوقع منهم توفيرها لطلبتهم. فعندئذٍ يصبحون مرشدين لا مديرين ولدى الطلبة الفرصة للمشاركة في أي نشاط دون تمييز أو اتهام مضاد، ولا أحد ينقصه الوقت. إن كل شيء يعلم من موضوع معين اليوم يعلّم على حساب أمور أخرى في تلك الموضوعات.
إن كل التعلُّم يتم بالعيّنات. لا يمكن لأي قدر مُقرَّر من الأساسيات في أي علم أو موسيقى أو أدب أو فن أو مهارات حياتيَّة أو مواطنيه أن يؤدي إلى توفير القدرات والاهتمامات لدى الطالب في هذه الموضوعات. إن التعليم بالخبرة في أي علم أو موسيقا يوفر الفرصة للتعلُّم والشعور بالمدى الواسع لإمكاناتها.
ويجب أن توفر الفرص الشمول لا الاستثناء أو الاستبعاد. أي تعلّماً ذا مدى مفتوح أو حر لا نظاماً من الأقفاص والحظائر، وصقلاً للقراءة والكتابة والحساب. وفهماً للأدب والعلوم والشؤون المدنية بالمشاركة. يقول عالم الفيزياء ريتشارد فينمان الحاصل على جائزة نوبل فيها: لا يهم إهمال تعليم أي جانب من جوانب العلم إهمالا تاماً إذا أُعطي الأطفال في مرحلة معينة الفرصة للتفكير كالعلماء. ويمكن تطوير المجالات العلميَّة بالخبرة عند الضرورة، بشرط إرساء الانغماس الأولي في الموضوع.
هذا المنحى يحل كثيراً من المشكلات في المدرسة:
- يستطيع المديرون وقف الجهود في البداية لمعايرة كل شيء في المدرسة. أما البديل للمعايرة فهو التنوُّع المرغوب فيه، وعندئذٍ ليست هناك مشكلة إذا لم يستطع بعض الطلبة اللحاق بالركب. ويمكن مساعدتهم جانبياً، كما يمكن أن يعلم الطلبة ويساعدوا بعضهم بعضاً بغياب التنافس. كما سيكون الدافع إلى الغش والانتحال أقل، والوقت لن يكون قليلاً.
- لا حاجة لإلهاء المُعلِّمين والمُعلِّمات بتعليم الامتحانات، وإدارتها، ومساعدة الطلبة على الشفاء من أمراضها.
- وسيكون من السهل تجنيد الآباء والأمهات للمشاركة في تعليم أطفالهم وأطفال غيرهم.
- كما سيكون من السهل معرفة إفشال المدرسة وكذلك إصلاحها وتعزيز فرص للتعلُّم بالخبرة نعم. قد يبدو ذلك تبسيطاً للمسألة وسهلاً أكثر من اللازم، ولكنه صعب جداً في الواقع، لأنه يتطلَّب التفكير في المدرسة بطريقة راديكالية مختلفة. ليس سوى حظنا التاريخي السيئ الذي جلب إلينا نظاماً تربوياً مرتداً أو انكفائياً. لكن لا يوجد سبب يمنعنا من الانطلاق إلى الأمام من أجل تغيير دراماتيكي. لقد أصبحت الآلة الطائرة ممكنة عملياً عندما رفض مصمموها الفكرة (القوية آنئذٍ) التي ترى أنه لا بد من أن تخفق بأجنحتها (كالطيور) لتطير.
إن فكرة التعليم بالخبرة ليست جديدة، كما توجد في حياتنا العصريَّة بيئات خارج المدرسة لا تحصى يتم التعلُّم منها بأنشطة تعاونيَّة مساندة ودون إكراه، نسميها مجتمعات وجمعيات ونقابات ونوادي.
ولن يحدث التغيير في ليلة واحدة، غير أننا إذا بدأنا بالتكلّم عن الإمكانات وبدائل المدارس كما هي اليوم، فإن التغيير في الاتجاهات والممارسات التي سبَّبت في أحزان جون يمكن أن يبدأ. ويجب أن يكون لدينا متسع من الوقت لذلك".