إن الواقع التربوي كان واقعاً صعباً في كثير من البلدان، قيما يتعلَّق بعناصر العمليَّة التعليميَّة التعلُّميَّة، حيث أن النظريات التربويَّة التقليديَّة ساهمت في تكريس قيم سلبيَّة، كالتسلُّط والتحديد من حريَّة الآخرين في التعبير عن أنفسهم. إضافة الى عدم مراعاة الفروق الفرديَّة بين الطلبة، والتقليل من التفاعل الصفي وعدم مراعاة إنسانيَّة الطلبة، وإهمال استخدام حواسه في عمليتي التعليم والتعلم.
وقد تمثل تفعيل الحواس في التعلُّم منذ القدم، ومثال على ذلك قصة الراهب (كونتليان): حيث كان الأطفال يذهبون إلى مدراس الأحد الدينيَّة، في أيام الأحد، ليتعلَّموا القراءة والكتابة. وكان الأطفال يتعلَّمون فيها عن طريق اللعب. وقد كان الراهب (كونتليان) يعلم في هذه المدارس، حيث قام بنحت العظام لتشكيل حروف وكلمات، ومن ثم أعطاها للأطفال لكي يتعلَّموا من خلالها القراءة والكتابة. وهناك الكثير من العلماء المسلمين الذين نادوا بتفعيل الحواس في التعلُّم ومنهم (الإدريسي) الذي نقش أول كرة أرضية من الفضة. وفي عام 1600 م نادى (كومينوس) بتعليم الطلاب من خلال استخدام الحواس، أما (جون بستالوزي) فكان من بين أهم المدافعين عن التعليم عن طريق الحواس.
وبعد إجراء البحوث الميدانيَّة وظهور النظريات التربويَّة الحديثة على الواقع التربوي الذي تعيشه مدارسنا في الوطن العربي، تبينت الكثير من القضايا التعليميَّة والتربويَّة التي خلفتها النظريات التربويَّة التقليديَّة. حيث أكدت هذه البحوث والنظريات التربويَّة الحديثة على أهمية تفعيل دور الحواس لدى الطالب، وذلك لمدى مساهمتها في بقاء المعلومات في ذاكرة الطالب لفترات أطول.
ومن هنا، لا بدّ من القول بأن المعلومات والمفاهيم والمبادئ والخبرات التي يكتسبها المُتعلِّم من خلال استخدام عدد أكبر من الحواس هو الأنجع والأكثر فاعليَّة. وهذا ما أشار إليه (ادجار ديل) في مخروط الخبرات والذي قسمه إلى ثلاثة مستويات: العمل المحسوس، والملاحظة المحسوسة، والبصيرة المُجرَّدة.
حيث يشكل العمل المحسوس في قاعدة مخروط الخبرات لـ (اجار ديل) الأكثر حسيَّة وواقعيَّة والأكثر نجاحاً في بقاء المعلومات والخبرات التي يكتسبها الطالب لفترة طويلة، أما البصيرة المُجرَّدة والتي تشكل رأس المخروط فهي الأقل حسيَّة والأكثر تجريداً وتحتفظ بالخبرات التي يكتسبها الطالب في ذهنه لفترة قصيرة.ويعود ذلك إلى كثرة عدد الحواس المستخدمة في التعلُّم والتي تشكل قاعدة المخروط، والمثال الآتي يبين ذلك:
الموضوع: زراعة الفول
الخطوات:
- يقوم المُعلِّم بتقديم معلومات حول أهمية وفائدة نبات الفول، وكيفيَّة زراعته بالطريقة الصحيحة.
- يحضر المُعلِّم حوضاً وكيس رمل وماءً وبذر الفول.
- يبدأ المُعلِّم بعمليَّة زراعة الفول أمام طلبة الصف، بحيث يكون في موقع يشاهده جميع الطلبة.
- بعد ذلك يطلب من الطلبة تقديم استفساراتهم وأسئلتهم حول عمليَّة زراعة الفول، من أجل الإجابة عليها.
- يترك المُعلِّم الفرصة للطلبة للقيام بأنفسهم بزراعة الفول، مع إشراف وتوجيه منه.
- تلخيص المُعلِّم لأهم نقاط الدرس على السبورة، ومن ثم يقوم الطلبة بكتابتها.
- تقويم النشاط من خلال حديث كل طالب عما حدث معه.
فعند قيام الطالب نفسه بعمليَّة زراعة الفول يكون قد استعمل أكثر من حاسة في عمليَّة التعلُّم، وبهذا تكون المعلومات قد ترسّخت في الذاكرة طويلة المدى، عندها يستطيع إجراء عمليَّة لاسترجاعها بكل سهولة ومن الصعب نسيانها.
وهناك بعض المُعلِّمين يتّجهون إلى الاعتماد على القول إن استخدام التطبيقات العمليَّة يأخذ وقتاً طويلاً ويكون ذلك على حساب المنهاج المدرسي المُقرَّر، مما يدفعهم إلى التدريس باعتمادهم على السرد والتلقين. ولكن الأمر يختلف عن ذلك، حيث يكون في استطاعة المُعلِّم تنظيم أفكاره والتخطيط الجيد للدرس وخاصة بعد تدعيمه وتوظيفه في الخطة السنوية للمنهاج. فتفعيل أكبر عدد من حواس الطالب في عمليتي التعليم والتعلُّم يجعل المُعلِّم أكثر قدرة من غيره على إنجاز تدريب المنهاج المدرسي المُقرَّر كله ضمن الوقت المُحدَّد. وهذا يؤدي إلى تنميَّة المهارات العقليَّة لدى الطالب، وزيادة دافعيته إلى التعلُّم، والتكيف وتقبّل المدرسة، وتفاعله النشط مع المحتوى والمُعلِّم والطلبة وأولياء الأمور، وتنميَّة قدراته ومهاراته على حل مشاكله المدرسيَّة والحياتيَّة.
ولا شك في أن من مبادئ وأساسيات التعلُّم النشط الاعتماد على مشاركة الطالب في التعلُّم، وأن تفعيل دور الحواس في التعلُّم يعني إشراك/مشاركة الطالب في عمليتي التعليم والتعلم. كما يستطيع المُعلِّم توظيف مصادر البيئة المحيطة بالطالب في عمليَّة التعلُّم، وتفاعله مع الأشياء التي يحصل عليها من البيئة المحيطة به، عندها يكون قد استخدم عدداً من الحواس، كأن يأتي بزهرة ويبدأ الطالب يتفاعل وإيَّاها في أثناء ذكره لأجزاء الزهرة، وكيفيَّة زراعتها، وأهميتها، وكيفيَّة الاعتناء بها... إلخ.
لذا، لا بدّ لنا لكوننا مُعلِّمين وتربويين من ممارسة دورنا الريادي والفاعل تجاه تفعيل الحواس في التعلُّم، لما في هذا الأمر من أهمية للطالب أولاً لكونه محور العمليَّة التعليميَّة التعلُّميَّة، وللواقع التربوي والتعليمي ثانياً.