بدأ كلٌّ من "جوناثان بيرجمان" (Jonathan Bergmann) و"آرون سامز" (Aron Sams) في عام 2006 التدريس معاً في قسم الكيمياء في مدرسة "وودلاند بارك" الثانوية في مقاطعة "وودلاند" بولاية "كولورادو" الأمريكية، وقد صادف أنَّ لهما فلسفات تعليمية متماثلة للغاية؛ لذا قررا التعاون والتخطيط معاً لدروس الكيمياء بهدف توفير الوقت وتقسيم مهمات إعداد المعامل والاختبارات فيما بينهما.
لكن، اعترضهما تحدٍّ بخصوص الطلبة الذين يمارسون نشاطات رياضية لا صفية تضطرهم إلى صرف وقتٍ كبيرٍ في السفر من أماكن إقامتهم إلى المدارس والعكس، ممَّا تسبب بانشغالهم عن حضور الحصص الدراسية وتسليم الواجبات في الوقت المحدد، وتدنى نتيجة لذلك تحصيلهم الدراسي وأداؤهم عموماً، ممَّا جعلهم في معاناة دائمة للحاق بالدروس التي يتخلفون عنها في عدد من المقررات المختلفة؛ وكانت من هنا البداية.
لقد تغير عالم "آرون" و"جوناثان" بعد ذلك التحدي، وقررا أن يتعاونا لمواجهته، وقد لمعت فكرة في ذهنيهما عندما تعرفا على برنامج "بوربوينت" (PowerPoint) من مجموعة برامج "مايكروسوفت أوفيس" (Microsoft Office)، والذي يعرض شرائح تصاحبها أصوات وهوامش تفسيرية، ويمكن تحويلها إلى شريط فيديو مسجل وقابل للبث والتوزيع عبر الإنترنت من خلال موقع "يوتيوب" (YouTube).
لقد توقعا أن توفر هذه الفكرة عليهما الجهد في إعادة الشرح لهؤلاء الطلبة بالتحديد، وتساعدهم وتدعمهم ليتابعوا ما يُشرَح لزملائهم في الصف عند اضطرارهم إلى تفويت حصص الكيمياء؛ وهذا تماماً ما جرى بعد ذلك؛ إذ كلَّما جاء طالب ما معتذراً عن تغيبه عن الفصل الدراسي ليسأل عمَّا فاته في الحصة، يطلب منه المعلم أن يزور الموقع ويطلع على مقاطع الفيديو المنشورة حول الدرس السابق، وأن يراجعه ليطرح عليه أي أسئلةٍ حول الدرس في اليوم التالي.
دروس مسجلة:
لقد أحب الطلبة المتغيبون هذه الدروس المسجلة، إذ باتوا قادرين على تعلم ما فاتهم، كما كان الطلبة الحاضرون للحصة يعودون لمشاهدة هذه الدروس المسجلة كنوعٍ من المراجعة قبيل الامتحانات، ولم يعد يجد المعلم نفسه مجبراً على قضاء ساعات مع الطلبة بعد المدرسة أو في أثناء الاستراحة لتتبع الطلبة المتغيبين وشرح ما فاتهم من دروس.
ما لم يكن في الحسبان هي رسائل الشكر والامتنان للدروس المجانية التي استطاع الكثير من الطلبة والمعلمين الوصول إليها من كلّ أنحاء البلاد، والتي ساهمت في تعلمهم وفهمهم لمادة الكيمياء؛ وقد علق كلٌّ من "آرون" و"جوناثان" بكلّ سعادةٍ وبهجةٍ على ذلك قائلين: "لقد أثار فعلٌ جيّدٌ صغيرٌ في مدينةٍ صغيرةٍ انتباه الجميع في أنحاء البلاد وخارجها".
هذا ما جعل كلَّاً من "آرون" و"جوناثان" يتأملان الأعوام التي مضت، والجهد غير العادي الذي بذلاه في محاولةٍ منهما لمساعدة الطلبة الذين لم يتمكنوا من فهم المحتوى العلمي لمادة الكيمياء من المرة الأولى خلال الحصة الدراسية، ممَّا أدى إلى تعثرهم في أداء الواجبات وانخفاض حافزهم للتعلم.
لقد سلط ما حدث الضوء على أنَّ الطالب الذي يحتاج إلى وجود المعلم شخصياً ليشرح له الدرس هو في الحقيقة بحاجةٍ إلى مساعدةٍ فردية، وطرح عندها "آرون" تساؤلاً على "جوناثان" قائلاً: "ماذا لو سجلنا مسبقاً كلّ الدروس؟ هل سيتمكن كل الطلبة وقتها من مشاهدة الفيديو كواجبٍ منزلي، ونستخدم وقت الحصة الفعلي لمساعدة الطلبة على فهم المفاهيم التي لم يفهموها؟"؛ وكانت هذه هي لحظة ميلاد "الصف المقلوب" (flipped classroom).
الاستعداد للصف المقلوب:
لقد سجل المعلمان في فترة الإجازة الصيفية الدروس الخاصة بمنهج الكيمياء عبر لقاءات مسائية وصباحية، وجرى توزيع الطلبة على جداول ثابتة مع بداية العام الدراسي، حيث يلتقي فيها "آرون" و"جوناثان" بالطلبة لمدة 95 دقيقة على مدار 3 أيام أسبوعياً لشرح المفاهيم المستعصية على الطلبة وحل التمرينات خلال الحصة وتطبيق التجارب العملية؛ في حين يتعين على الطلبة حضور شرائط الفيديو كواجب منزلي، وتدوين الملاحظات والأسئلة لطرحها على المعلم في الحصة التالية.
كانت النتيجة أن توصلا إلى طريقةٍ أكثر فاعليةٍ في إدارة الحصة الدراسية وتقديم ما هو أفضل للطلبة؛ وبالإضافة إلى ذلك، تمكَّن الطلبة من الانتهاء من المنهج التعليمي وحلّ جميع التمرينات، وكذلك الاستعداد لاختبارات نهاية العام.
لم تكن شرائط الفيديو هي المهيمنة على أسلوب التعليم في الصف المقلوب، بل تنوعت الأساليب بالاعتماد على البحث والاستقصاء وتقديم المشاريع؛ وقد حقق ذلك نجاحاً باهراً حقاً.
لماذا يتحتم على معلمي اليوم هجر الطريقة التقليدية في التعليم؟
نعرض لك في الجدول أدناه أهم الملامح العامة في التعليم التقليدي ونتائج تطبيقه في الصفوف المدرسية:
الملامح العامة |
التعليم التقليدي |
النتيجة |
المستويات المتباينة للطلبة + الأعداد الهائلة منهم + المنهج التراكمي + الزمن القصير |
لا يمكن للمعلم أن يضمن أنَّ كل طالب من طلابه قد تعلم ما يكفي في ظل المستويات المتباينة للطلبة والحجم الهائل من المعلومات التي يجب تغطيتها خلال المنهج الدراسي، مع ضمان امتلاك المهارات اللازمة للتمكن من المادة. |
|
تنفيذ الاختبارات التشخيصية |
يشرف المعلم على تعليم 150 طالباً، ويعدُّ تنفيذ الاختبار التشخيصي مَهمَّة مستحيلة. |
|
إدارة الصف |
يتحتم على الطلبة الجلوس في صفوف متأنقة وجذابة الشكل ليستمعوا إلى خبيرٍ واحد، ألا وهو المعلم الذي يفسر موضوعاً ما، ثمَّ يتحتم عليهم تخزين هذا التفسير في ذاكرتهم، ومن ثمَّ استدعاؤه مع ما صاحبه من معلومات حُفِظت سابقاً استعداداً للامتحان. |
|
كمية ونوعية التعلم |
يتلقى الطلبة في التعليم التقليدي القدر نفسه من التعليم، وبالنوعية نفسها. |
|
الدافعية إلى التعلم |
لا يأتي الطلبة إلى الفصل بالدرجة نفسها من الاستعداد للتعلم؛ إذ قد يفتقد بعضهم الخلفية المناسبة المتعلقة بالمادة الدراسية، ولا يشعر بالرغبة في دراستها، أو قد لا يشعر بعضهم الآخر بالراحة للنموذج التعليمي التقليدي ببساطة. |
من جهة أخرى:
- يؤسس الصف المقلوب إطاراً عملياً يضمن للطلاب أن يتلقوا تعليماً فردياً يراعي احتياجات كلٍّ منهم والاختلافات المتباينة فيما بينهم، كما أنَّه يمنح الطلبة خيارات متنوعة من الأنشطة التي تساهم في فهم الأهداف التعليمية المتعددة للمادة الواحدة.
- يسخِّر الصف المقلوب التقنية ويستفيد منها في دفع المعلمين إلى خلق مكتبة من مقاطع الفيديو المتميزة على شبكة الإنترنت للمواد الدراسية المختلفة والموضوعات كافة التي تساهم في مساعدة الطالب على تحمل مسؤولية تعلمه، وتتيح له في الوقت نفسه سهولة الوصول إلى هذه المقاطع واستخدامها لفهم أعمق للمادة التعليمية؛ وذلك على عكس ما يحدث في التعليم التقليدي تماماً.
إنَّه لمن الضروري أن نقف ملياً عند "بنيامين بلوم" (Benjamin Bloom) الذي وضع حجر الأساس لنظرية إتقان التعلم، والتي تُطبَّق تماماً من خلال نموذج الصف المقلوب في التعليم.
نظرية إتقان التعلم ونموذج الصف المقلوب:
يهدف النموذج الصفي المقلوب إلى تطبيق "نظرية إتقان التعلم"، ويزاوج بينها وبين التكنولوجيا الحديثة لإيجاد تلك البيئة المنتجة والراعية للتعلم بصفة دائمة لا تنقطع.
نظرة عامة على نظرية إتقان التعلم:
تعدُّ نظرية إتقان التعلم قضيةً اكتسبت شهرتها منذ نشوئها في سبعينات القرن العشرين على يد العالم "بنيامين بلوم" (Benjamin Bloom)، والذي وصف المعاهد والمؤسسات التعليمية في ذلك الوقت بأنَّها أشبه بمضمار سباق لا يربح فيه إلَّا أسرع المتسابقين؛ وبالمثل، فقد تحول التعليم إلى سباق لا يكسب فيه إلَّا أسرع المتعلمين وأكثرهم قدرة على الاستيعاب والفهم.
الفكرة الأساسية:
- يتعلم الطلبة مجموعة من الأهداف التعليمية حسب معدلاتهم وقدراتهم على الفهم والاستيعاب.
- لا بأس بإجادة هدفٍ واحدٍ -على الأقل- كضرورةٍ للنجاح في كلّ الأهداف التابعة إلى ذلك الهدف الرئيس.
وذلك على عكس ما يحدث في النموذج التقليدي الذي يجري فيه:
- تكليف كل الطلاب بأن يتعاملوا مع الموضوعات أو المقررات نفسها في الوقت نفسه.
- يؤدي الطلبة عملية التعلم انطلاقاً من أهداف تعليمية حُدِّدت مسبقاً، ولا تتناسب دائماً مع قدراتهم على الفهم والاستيعاب.
المكونات الرئيسة لإتقان التعلم:
- اعتماد أداء الطلاب على معدل الفهم والاستيعاب الذي يناسب كلاً منهم.
- تقييم المعلم الطلابَ وقياس مدى فهمهم.
- عرض الطلاب لمدى إجادتهم فهمَ واستيعاب الأهداف من خلال الاختبارات القصيرة أو الطويلة.
- التدخلات العلاجية لرفع مستوى واستعداد الطلاب الذين لم يتوصلوا إلى مستوى إجادة الهدف المُعطَى لهم.
لقد أثبتت إيجابيات تطبيق هذه النظرية نجاح الفكرة العامة، وذلك من خلال:
- أظهرت الدراسات والبحوث أنَّ 80% من الطلاب يمكنهم تعلم كل المحتوى المطلوب عندما تُطبَّق نظرية إتقان التعلم مقارنة ب 20% فقط منهم، بحيث يمكنهم أن يصلوا إلى هذا التعلم عن طريق تطبيق النموذج التقليدي في الشرح والتدريس.
- تحسُّن إنجاز الطالب، وتقدُّم تحصيله.
- ارتفاع نسبة التعاون بين الطلبة.
- ارتفاع معدل الثقة الذاتية للطالب؛ إذ يحصل على فرصة ثانية لعرض مدى تمكُّنه من فهم الهدف المُعطَى له واستيعابه.
التحديات التي واجهت المعلمين في تطبيق نظرية إتقان التعلم:
- صعوبة تكرار الدرس على المعلم.
- كثرة واختلاف الأساليب التي يجب على المعلم كتابتها وتقديمها.
- صعوبة تقييم المعلم لهذا العدد الكبير من الأهداف التعليمية في وقتٍ واحد.
الشراكة بين "بنيامين بلوم" وكلٌّ من "جوناثان" و"آرون":
ساعد تطبيق نظرية "الصف المقلوب" على إيجاد حل للتحديات التي واجهت "نظرية إتقان التعلم"، وذلك من خلال النقاط الآتية:
- خففت مقاطع الفيديو على المعلم عبء الإعادة والتكرار، وجعلت عملية التعلم متاحة وممكنة، وأصبح بإمكان المعلمين قضاء وقت أكبر في إعادة تدريس المقرر للطلاب الذين تواجههم صعوبة في الفهم والاستيعاب.
- ساهم "الصف المقلوب" في حل مشكلة العدد المتنامي من الاختبارات الضرورية لتحقيق "نظرية إتقان التعلم"؛ حيث:
- أصبحت كل أساليب التقييم تحتكم في إدارتها وتوجيهها إلى استخدام الحاسوب، حيث يُقيَّم كلّ طالب بأسلوب مختلف عن تقييم الآخرين.
- يحصل الطلبة على صيغ مختلفة للامتحان في كل مرة يؤدون فيها اختباراً ما.
- ساهمت التكنولوجيا في جعل هذا العمل أكثر سهولة ويسراً، وأتاحت إمكانية وجود وسائل متعددة للتقييم؛ كما ساهمت في تقليص وقت تصنيف هذه التقييمات؛ ذلك لأنَّ الأسئلة تُصنَّف بواسطة الحاسوب.
أخيراً:
كانت هذه أهم نقاط الجزء الأول من سلسلة مقالاتنا هذه، وستكون الأسباب التي تجعل نموذج الصف المقلوب الحل الأمثل محور الجزء الثاني من هذه السلسلة.
المصدر: المقال منشور في موقع النجاح نت للمدربة سمية الشمري.