تسعى الدول المتقدمة منذ عقود مضت إلى إدراج تعلم الموسيقى ضمن برامجها الدراسية، فعلى سبيل المثال: تضع كوريا الجنوبية تمكُّنَ أي طالب كوري من العزف على أي آلة موسيقية شرطاً لقبوله في أي تخصص في الجامعة.
كان عنصر الموسيقى جزءاً حيوياً من معادلة جورجي لوزانوف لتسريع عملية التعلم، وقد شاعت نتائج دراسة تتحدث عن تأثير الاستماع إلى موسيقى موزارت الكلاسيكية في نتائج اختبارات الذكاء لدى بعض طلبة إحدى الجامعات فيما يُعرَف بـ "تأثير موزارت"، كما يُظهر المرضى النفسيون ومرضى الصرع تحسناً كبيراً وملحوظاً في حالتهم الصحية بناء على نتائج قدَّمها أطباؤهم النفسيون الذين أخضعوا مرضاهم إلى العلاج بالموسيقى.
قد تتساءل هنا عن حقيقة تأثير الموسيقى في عملية التعلم، وعن تأثيرها في تَعلُّم اللغة على وجه الخصوص، وماهيَّة التأثير النفسي الذي تتركه في المتعلمين، وعمَّا إذا كان الاستماع إلى موسيقى موزارت يرفع معدل الذكاء العام أم لا، وفيما إذا كانت توجد علاقة بين تعلم اللغة وتعلم الموسيقى، والطريقة التي يتأثر الدماغ بها ويتفاعل مع الاستماع إلى الموسيقى؛ لذا سنقدم لكم في هذه المقالة بعض حقائق تعلم الموسيقى واللغة وطريقة تفاعل الدماغ معهما.
الموسيقى والحاسة الإيقاعية لدى الإنسان:
إنَّ الموسيقى علم يبحث في خصائص الصوت من جوانبه الفيزيائية المختلفة، وقد قيل أنَّها لغة الألحان والأصوات المتناغمة، حيث تنظم الموسيقى الأصوات والعلاقة فيما بينها عبر الإيقاعات والأوزان.
إنَّ لكل فنٍّ لغته، والموسيقى أقرب هذه الفنون إلى اللغة المنطوقة؛ فكلاهما ظاهرتان صوتيتان؛ وكما للغة قواعد للتركيب والنحو، كذلك للموسيقى عناصرها الخاصة، والتي هي:
- الإيقاع (Rhythm): حركة الموسيقى المتعاقبة خلال الزمن، والإيقاع هو تَكرار ضربة أو مجموعة من الضربات بانتظام، وعلى نحو تتوقَّعها معه الأذن كلما آن أوانها؛ إذ لا يضيف الإيقاع إلى اللحن شيئاً جديداً، وإنَّما هو تنظيم زمني لحركة اللحن، بحيث يتَناوب خلال هذه الحركة عنصر التأكيد المتوتر وعنصر إطلاق هذا التوتر وتخفيفه.
- اللحن (Melody): هو كالجملة في اللغة، حيث يتكون من مجموعة من النغمات تنتهي إلى تعبير ذي تأثير. واللحن هو مجموعة من الأصوات المتتالية التي يخضع تنظيمها إلى رغبة المؤلف، ويُستمَع إليها كنسيج واحد؛ أي أنَّه تتابع معين للنغمات على نحو مناسب يرضي الأذن، ويعتمد على العلاقة بين الأصوات من حيث الحدة، وفرق المسافة ما بين النغمة والتالية، إلى جانب طول امتداد كل نغمة؛ وكل هذه الفروقات هي ما يعطي اللحن طعمه ولونه.
- التوافق الصوتي (Harmony): هو إيجاد الانسجام بين صوتين أو أكثر في وقت واحد. ويتميز الطابع الصوتي في الموسيقى بثلاث عناصر هي:
- النوع: أي اختلاف مصدر الصوت، فصوت الكمان مختلف عن صوت القانون.
- درجة شدة الصوت: القوة واللين.
- الطبقة: حدة وغلظة الصوت.
- الطابع الصوتي (Timber): هو طبيعة مصدر الصوت.
يتفاعل المستمع العادي مع الموسيقى بالاستماع إلى النسيج النهائي لهذا الفن، والذي قد يستمتع به أو لا؛ بينما يكون المستمع الخبير قادراً على تمييز مكونات الموسيقى الأربعة، فهو ينغمس بالإنصات إلى الموسيقى، ولديه القدرة على نقد ما يستمع إليه من خلال معرفته وفهمه المسبق لما يسمعه؛ فتذوُّق الموسيقى علم يجب تعلمه.
الأثر النفسي للموسيقى في المتعلمين:
ممَّا لا شك فيه أنَّ للموسيقى أثر نفسي في الإنسان، سواءً أَكانَ عالماً أم جاهلاً بمكونات القطعة الموسيقية التي يسمعها؛ ويعزو الباحثون هذا الأثر إلى ما يُسمَّى الحاسة الإيقاعية لدى الإنسان، والتي تساعده على ضبط إيقاعه مع إيقاع الطبيعة من حوله؛ إذ توجد إيقاعات سريعة كالتنفس وضربات القلب، وأخرى بطيئة كالنوم واليقظة، وأخرى ثنائية في الطبيعة كالليل والنهار، وإيقاعات رباعية كتعاقب الفصول خلال السنة.
فالحركة الإيقاعية ما هي إلَّا ترديد لحركات أخرى تُناظِرها داخل جسد الإنسان أو في الطبيعة من حوله؛ وبناء على ذلك، استنتج الباحثون الأصل العضوي أو الطبيعي للموسيقى.
لقد أشارت دراسة حديثة إلى أنَّ علاقة الإنسان مع الموسيقى يمكنها أن تبدأ من الأيام الأولى في حياته، وذلك من خلال استجابة الحاسة الإيقاعية لديه بالتأثر بهدهدة الأم له، وبالألحان والأغنيات التي تُسمِعه إياها لإغرائه بالنوم أو تناول الطعام أو تهدئته وإشغاله عندما يبكي؛ كما وأثبت العلماء أنَّ هذه العلاقة يمكنها أن تنشأ قبل الولادة حتى، حيث يستمع الجنين خلال فترة الحمل إلى إيقاع نبض أمه؛ لذا فإنَّ علاقته بالموسيقى علاقة قديمة؛ كما وجد العلماء مؤشرات على أنَّ الجنين في الثلث الثالث من الحمل يمكنه أن يتعرف على صوت أمه ولغتها، وبإمكانه تذكُّرَ أنماط الكلمات والقوافي التي كانت تقولها.
هل يعني هذا أنَّ الأجنة قادرة على تمييز الكلام من الموسيقى في هذه المراحل الأولى من التكوين؟ نعم، إذ أشارت بعض الدراسات إلى أنَّ تعريض الأجنة إلى الموسيقى يزيد من نشاط الدماغ، فلأدمغة الأطفال قدرة فطرية على اكتشاف النغمات الموسيقية.
إلَّا أنَّ هذه الدراسات تحذِّر في الوقت ذاته من تعريض الأجنة أو الرضَّع إلى الأصوات العالية والضوضاء الشديدة، خاصة لفترات طويلة، حيث ثبت أنَّ لها تأثير ضار في نمو الدماغ؛ بالإضافة لذلك، وُجِد أنَّ الأمهات اللاتي قرأن لأجنتهن بأصوات عالية مع تنغيم الصوت، قد ساهمن في تنشيط التعلم السمعي لديهم، وذلك من خلال التعرف على صوت الأم وتفضيله؛ ويمتد هذا التأثير إلى نموهم العاطفي والاجتماعي على نحو مثير للدهشة.
لا تقدم هذه الدراسات تفسيراً للتأثير النفسي للموسيقى في الدماغ والمؤشرات الحيوية كالتنفس والضغط وضربات القلب لدى الأجنة، إلَّا أنَّها تشجع الأمهات على القراءة والتحدث مع أطفالهن الرضع قبل وبعد الولادة، والحرص على أن تكون الموسيقى التي يُسمعونَها للأجنة والرضع موسيقى هادئة، حتى لا يتضرر الجهاز السمعي ولا يُصاب الرضيع بالفزع.
يوجد اليوم دلائل قوية على الأثر الإيجابي للموسيقى في الصحة النفسية للمتعلمين، حيث تعمل على زيادة التحصيل الدراسي لديهم، وتساعدهم على بناء علاقات إيجابية مع زملائهم ومعلميهم، ويمتد أثرها ليؤدي إلى زيادة الإبداع والإنتاج لدى الطلبة على نحو كبير، كما يظهر هذا الأثر في جعل المتعلم شخصاً هادئاً ومستمعاً جيداً.
وللصحة النفسية العديد من التعريفات، منها أنَّها القـدرة على العطاء والحب دون انتظار مقابل، وتُفسَّر على أنَّها التوازن بين الغرائز والرغبات الخاصة والذات والضـمير، كما تُعرَّف على أنَّها القدرة على التأرجح بين الشك واليقين؛ وقد عرَّفتها منظمة الصحة العالمية بأنَّها "ليست مجرد غيـاب الاضطرابات النفسية، بل هي حالة من العافية يستطيع فيها كل فرد إدراك إمكاناته الخاصة، والتكيف مع حالات التوتر العادية، والعمل بطريقة منتجة ومفيدة، والإسهام في مجتمعه المحلي.
تقول جودي هير (J. Herr): "إنَّ للموسيقى القدرة على تنمية إحساس الطفل تجاه الآخرين، وتتيح له الفرصة ليتعلم مهارات لغوية وحسابية، وتزوده بشعور داخلي مفرح في أثناء لعبه وأكله ونومه، وتكسِبه القدرة على التعبير عن ذاته والتفاعل مع مشاعر الآخرين؛ فحينما يغني الأطفال ويستمعون إلى الموسيقى، يتعلمون كلمات وأصواتاً جديدة".
حقيقة تأثير موزارت في معدل الذكاء العام (IQ):
نشر "راوشر" (Rauscher) وزملائه في عام 1993 نتائج دراسة على الكبار تفيد بأنَّ الاستماع إلى "سوناتا موزارت (K448)" لمدة عشر دقائق قد نتج عنه تحسُّن مهارات التفكير الزماني والمكاني بصورة ملحوظة مقارنة بمجموعتين أدتا الاختبار نفسه، حيث خضعت إحداهما إليه دون الاستماع إلى الموسيقى، بينما استمعت الأخرى إلى تعليمات استرخاء مصممه لخفض ضغط الدم؛ إلَّا أنَّ الدراسة وضحت أنَّ هذا التأثير لم يعزز الذكاء العام (IQ) لدى الأفراد عينة الاختبار، ولم يمتد أثره لأكثر من 10 إلى 15 دقيقة. من الجدير بالوقوف عنده هنا هو أنَّ هذا التأثير ليس محدوداً بموسيقى موزارت وحدها، بل يعتمد على خصائص معينة، مثل متوسط قوة نغمات معينة والدرجة العالية من التواتر طويل الأمد لهذه السوناتا بالتحديد (K448)، والذي وُجِد في بعض مقطوعات باخ والموسيقي الأمريكي اليوناني "ياني".
حاول العلماء في تجارب أخرى لاحقة الكشف عن هذا الأثر لدى مجموعة من الأطفال تتراوح أعمارهم بين 3-4 سنوات، حيث تلقى الأطفال دروساً في العزف على لوحة المفاتيح لآلة موسيقية لمدة 6 أشهر، ونجحوا بعدها في أداء ألحان بسيطة لبيتهوفن وموزارت، ثم خضعوا إلى اختبارات التفكير المكاني والزماني، فظهر تحسُّن في النتائج بنسبة 30% مقارنة بمجموعتين من الأطفال، حيث لم تتلقَّ واحدة منهما أي تدريب خاص، في حين تلقت الأخرى دروساً في الكومبيوتر.
لقد استمر هذا التأثير دون تغيير لمدة 24 ساعة بعد نهاية الدروس، وقد فُسِّرت هذه النتائج المرتفعة بأنَّ أدمغة الأطفال أكثر ليونة من أدمغة الكبار.
ظهرت دراسات أخرى تشير إلى أنَّ للموسيقى دوراً إيجابياً في تنمية المهارات الأساسية الضرورية للتعلم لدى الطلبة، مثل اللغة والتحدث والكتابة؛ حيث أكدت هذه الدراسات أنَّ الأطفال الذين يتدربون على العزف على آلة موسيقية يمتلكون مفردات لغوية أكثر، بالإضافة إلى مهارات متقدمة في القراءة مقارنة بأقرانهم ممَّن لا يتدربون على العزف على أي آلة موسيقية أو يقومون بأي أنشطة أخرى غير موسيقية.
لقد أظهرت دراسة استطلاعية على مجموعة من الأطفال في سن 6 سنوات يتدربون على العزف على آلة الأرغن، أو الغناء لمدة 36 أسبوعاً نتائج مفادها أنَّ هؤلاء الأطفال ارتفع لديهم معدل الذكاء العام (IQ) ونتائج الاختبارات التعليمية الموحدة خلال تلك الفترة مقارنة بالأطفال الذين مارسوا أنشطةً أخرى غير مرتبطة بالموسيقى، كما أنَّ المجموعة التي تعلمت الغناء أظهرت معظم التحسن.
وجدت خدمة امتحانات الدخول إلى إحدى الكليات، في دراسة أُجرِيت في عام 1996 أنَّ الطلاب الذين غنوا أو عزفوا على آلة موسيقية سجلوا 51 نقطة أكثر في الجزء اللفظي من اختبارات "سات" (SAT)، و39 نقطة أكثر في جزء الرياضيات في الاختبار.
لاحقاً، وفي محاولة لإيجاد تفسير لهذه النتائج، أظهر التصوير المقطعي البوزتروني (PET) والمسح بالرنين المغناطيسي الوظيفي (FMRI) أنَّ الاستماع إلى الموسيقى يعمل على تنشيط مناطق واسعة من الدماغ، كما وُجِد أنَّ مكونات الموسيقى -كالإيقاع والألحان والجَرس والنغمة وتناسق الصوت- تُعالَج في الدماغ في مناطق متعددة ومختلفة؛ كما وُجِد أنَّ المناطق المسؤولة عن مهارات التفكير الزماني والمكاني تتقاطع مع مناطق من الدماغ مسؤولة عن معالجة الموسيقى، وقد أظهرت صور الرنين المغناطيسي أنَّ كثافة الترابطات العصبية - وبالتالي النشاط العصبي الدماغي - يزداد لدى عازفي الآلات الموسيقية مقارنة بغيرهم ممَّن لا يتقنون العزف على أي آلة.
تأثير موسيقى الخلفية في التعلم:
يُقصَد بموسيقى الخلفية الموسيقى التي تُشغَّل في الخلفية في أثناء الدراسة، أي يستمع المتعلمون عند قراءة نص ما إلى هذه الموسيقى دوناً عن سواها.
كانت موسيقى الباروك في تجربة لوزانوف تُعزَف في الخلفية في أثناء استغراق الطلبة في تعلم مفردات اللغة الفرنسية، وقد أسهمت هذه الأصوات -كما عَلَّق الطلبة- على الاسترخاء والراحة بعيداً عن التوتر العصبي، ممَّا ساهم في رفع الانتباه إلى عملية التعلم، وقد جاء من بعد هذه التجربة كثير من التجارب تبحث في أثر موسيقى الخلفية في تحسين التعلم بقياس التذكر والفهم.
لقد اقترحت بعض هذه الدراسات أنَّ الموسيقى -خاصة الهادئة والكلاسيكية- تمنح عادة شعوراً عاماً بالهدوء، ممَّا يساعد الطلبة على التغلب على التوتر والقلق اللذين يُعدَّان العدو الأول للتعلم، كما أشارت إحدى الدراسات إلى أنَّ وجود خلفية موسيقية هادئة يحسِّن التركيز على المَهمَّة التي يقوم بها الطلبة من خلال توفير الدافع إلى البقاء والاستماع، وتحسين الحالة المزاجية لدى الطلبة؛ ووجدت كذلك أنَّ قدرة الطلبة على استذكار المعلومات تحسَّنت في بعض الحالات عن طريق خلق مزاج إيجابي لديهم؛ كما قدمت إحدى الدراسات نتيجة مفادها بأنَّ الموسيقى هي مصدر جاذب للطالب إلى المدرسة، وتساعده على فهم وإدراك وحفظ المواد الدراسية الأخرى، وتعمل علـى تعويد الطالب على الحفظ والتذكر والتحليل، ولها ارتباط بالقابليات الأخرى مثل القابلية اللغوية.
ومن ناحية أخرى، قالت الدراسة أنَّ للموسيقى أثراً إيجابياً في الصحة النفسية للمتعلمين، ممَّا يؤدي إلى زيادة في التحصيل الأكاديمي للطلبة، وتحسين علاقات الطلبة مع زملائهم ومعلميهم، وزيادة الإنتاج الإبداعي؛ وعلاوة على ذلك، أشارت الدراسة إلى أنَّ خصائص المتعلم كخبرته الموسيقية، أو إلمامه بالموسيقى المُقدَّمة في الخلفية- هي ما يمكن أن يؤثر في تعلُّمه؛ كما أشارت بعض الدراسات إلى أنَّ موسيقى الخلفية لها تأثير إيجابي في المزاج، حيث يرتبط المزاج الإيجابي بنتائج تعليمية أفضل، على عكس الملل أو المزاج السلبي الذي يعوق التعلم.
علينا الإشارة هنا إلى أنَّ التأثير والآلية التي تعمل بها موسيقى الخلفية على تحسين نتائج التعلم غير واضحة بعد للباحثين، ولا زالت الدراسات في مراحلها الأولى في هذا الصدد.
محاذير حول موسيقى الخلفية:
تتنوع نتائج الدراسات التي تبحث في العلاقة بين موسيقى الخلفية ونتائج التعلم؛ ولعلَّ السبب وراء اختلاف نتائج هذه الدراسات هو خصائص الموسيقى المستخدمة في كل دراسة (مثل الإيقاع والشدة)، والتي كان لها تأثير في نتائج التعلم، حيث أشارت الدراسة المقارنة التي قام بها العالم طومسون وآخرون إلى أنَّ الموسيقى الناعمة السريعة لها تأثير إيجابي، في حين أعاق الصوت العالي والموسيقى البطيئة الناعمة أو الصاخبة عملية التعلم؛ أضف إلى ذلك أنَّ الموسيقى التي تصحبها كلمات، تُزعج المتعلمين بدرجة أكبر من موسيقى الآلات.
ومع ذلك، فقد نبهت هذه الدراسات إلى مجموعة من المحاذير التي علينا أخذها في عين الاعتبار عند التعامل مع موسيقى الخلفية في أثناء الدراسة، حيث وجدت أنَّ الطلاب الذين يستمعون إلى موسيقى مع كلمات في أثناء إتمام مهمَّات القراءة أو الكتابة يميلون إلى أن يكونوا أقل كفاءة بعد أن استوعبوا معلومات أقل، خاصة في المهمات التي تتعلق باستذكار القوائم والأوامر والمعلومات ذات الارتباطات الجذرية (السبب والنتيجة)؛ كما وجدت أيضاً أنَّ الموسيقى الصاخبة أو المضطربة لها تأثير ضار في الحالة المزاجية والفهم والقراءة، وذلك نتيجة تدهور قدرة التركيز لدى الطلبة، حيث تتداخل الكلمات والأصوات الصاخبة للموسيقى في سياق التعلم، فتعمل على تشتيت الدماغ وإضعاف قدرته على التركيز، حيث يكون مشغولاً في الوقت ذاته بتحليل البيانات الصادرة من الخلفية الموسيقية.
نوهت الدراسة أيضاً إلى أنَّ الطلاب الذين يستخدمون الموسيقى لمساعدتهم على الحفظ يحتاجون في بعض الأحيان إلى الاستماع إلى الموسيقى في أثناء إجراء الاختبار من أجل جني ثمار طريقة الدراسة هذه، وقد يجد هؤلاء الطلاب صعوبة أكبر في تذكر المعلومات في بيئة الاختبارات الصامتة؛ كما نوهت دراسات أخرى إلى أنَّ تأثير موسيقى الخلفية يعتمد على نوع المَهمَّة التي يعمل عليها المتعلمون، فعلى سبيل المثال: إذا كانت المَهمَّة تتطلب إبداعاً أو ممارسة للتدوير الذهني، فيمكن للاستماع إلى الموسيقى المفضلة أن يزيد من الأداء؛ أمَّا إذا كانت المَهمَّة تتطلب أن يكرر المتعلم المعلومات بطريقة صحيحة، فالهدوء هو الحل الأسلم.
الموسيقى واللغة، علاقة قديمة:
لطالما وُجِدت علاقة قوية وقديمة جداً جمعت بين الموسيقى واللغة؛ فمن ناحية علمية، واستناداً إلى مجموعة من الحقائق، نجد أنَّ كلاً من اللغة والموسيقى يُعَدَّان ظاهرتان صوتيتان، وأنَّ كلاهما يُستقبَل عبر الأذن، والتي تنقل بدورها الاهتزازات الصوتية الناشئة عن موجات اللغة والموسيقى إلى الدماغ، وهو الجهاز المشترك فيما بينهما والمسؤول عن معالجة المعلومات التي تنقلها تلك الاهتزازات؛ أمَّا من ناحية تاريخية، يرى المؤرخ والجغرافي اليوناني سترابون أنَّ الكلام والغناء كانا الشيء نفسه في الأزمنة القديمة، ويتصور أنَّ الأصوات المتنوعة التي كان يصدرها الإنسان الأول كانت الشكل الأول من الكلام، وكان إيقاع هذه الأصوات الشكل الأول من الموسيقى؛ أي أنَّ الارتباط كان قوياً بحيث لا يُمكن الفصل فيما بينهما.
ثم جاء بعده علماء كثرَ بحثوا في هذا الموضوع، وكان داروين واحداً منهم، والذي صاغ منذ قرنين في كتابه "نشأة الإنسان" ما مفاده أنَّ الموسيقى واللغة كانا في الماضي السحيق الأمر نَفسَه، وقد أخذت الموسيقى واللغة في الانفصال والتطور عن هذا السلف اللغوي- الموسيقي كلُّ واحدٍ بطريقٍ مختلفٍ تماماً".
إنَّ هذه اللغة الموسيقية التي تُعَدُّ شكلاً بدائياً من الأصوات والإيماءات التواصلية والتعبيرية أقرب إلى الطريقة التي يتواصل بها الأطفال الرضع معنا اليوم، وقد أصبحت هذه الإيماءات أو الأصوات البدائية بعد تاريخ طويل من الانفصال بين النظم النغمي في الموسيقى والنظم الكلامي في اللغة المنطوقة تكوِِّن اليوم أساس كل ما نعرفه من لغات وموسيقى.
يخبرنا داروين في كتابه أنَّ الحاجة إلى التعبير عن العواطف والارتباط بين البشر لتدعيم الروابط الاجتماعية للجماعة أسهم في تطوير هذه اللغة الموسيقية عبر أصوات مرتفعة ومنخفضة وسريعة وبطيئة، ولكلٍّ منها إيحاؤه الخاص، كما في حالات الفرح والبكاء والصراخ؛ ثمَّ ظهر بعد ذلك بزمن بعيد تطور في اللغة أبقى على هذه العلاقة الموروثة بين الموسيقى واللغة، ألا وهو الشعر؛ حيث كانت أقدم النصوص الأسطورية والدينية شعرية، وكان البشر يرتلونها ويتغنون بها؛ وجاء بعد ذلك بزمن تعريف الفن في عصر اليونانيين والرومانيين، وفُصِلت الموسيقى عن باقي الفنون كشكل فني مستقل له خصائصه وسماته المميزة له عن باقي الفنون، وظهرت الآلات الموسيقية مع الغناء لمساعدة الصوت البشري على إظهار جماليات الكلمة المغناة، وبقي الارتباط بين اللغة والموسيقى إلى الأبد.
تأثير الموسيقى في الدماغ:
"لا يحفز شيء عدداً كبيراً من مناطق الدماغ كالموسيقى"، هذا ما قاله أستاذ التربية الموسيقية ومدير مَعهد الأبحاث الموسيقية في جامعة شمال كارولاينا في غرينزبورو (University of north Carolina in Greensboro) البروفيسور "دونالد هودجز" (Hodges).
تعمل الدراسات التي تبحث في تأثير الموسيقى في الدماغ على دراسة أثر الذكاء الموسيقي في التعلم، وتأثيرها في القدرات العقلية الأخرى؛ حيث تحدث عالم النفس الأمريكي "هاورد غاردنر" (Gardner Howard) في نظريته المعروفة "نظرية الذكاءات المتعددة" (Multiple Intelligences) داعياً إلى وجوب إدراك وتغذية أنواع الذكاء الإنساني المختلفة بهدف الحصول على فرصة أفضل للتعامل مع التحديات التي يواجهها العالم، وقد تحدث في كتابه "أطر العقل" (Frame of Mind) عن وجود 8 أنواع من الذكاء الإنساني، وهي: الذكاء اللفظي، والذكاء المنطقي، والذكاء الاجتماعي، والذكاء الشخصي، والذكاء الجسمي، والذكاء الموسيقي، والذكاء المكاني، والذكاء الطبيعي.
ويعدُّ الأمريكي "إدوين غوردن" (Gordon Edwin) -عازف ومدرِّس وكاتب ومحرر ومؤلف موسيقي وباحث في التربية الموسيقية- واحداً من أبرز من درس الذكاء الموسيقي وتأثيره في الدماغ والوظائف الأخرى؛ حيث قال في نظريته "نوافذ الفرص" (Windows of Opportunities):
"يتعلم الأطفال العديد من المهارات مع نمو وتطور الدماغ والجسد معاً، مثل: الكلام، والسير والجلوس، والتحكم بعضلات الجسم وغيرها؛ وتتطلب كل مهارة مرحلة عمرية معينة يمكن للطفل فيها تعلم هذه المهارة، إذ تكون قابلية الطفل لتعلمها في أحسن أحوالها؛ حيث تُفتَح في هذه الفترة نافذة يستعد دماغ الطفل معها بشكل كبير لتعلم المهارات المرتبطة بها، كما تتشكل لديه قدرة هائلة على تنفيذها".
لقد سمَّى غوردن في نظريته هذه الفترات بـ "نوافذ الفرص"، وأشار إلى أنَّ على الآباء والمربين استغلالها لزيادة القابلية الموسيقية "Music Aptitude" (اضمحلال القابلية الموسيقية: نظرية مفادها أنَّه عندما لا تُنشَّط أماكن معينة من دماغ الإنسان مسؤولة عن أنشطة معينة، سيفقد دماغ ذلك الشخص جزء من قدرته في تلك المنطقة، ويؤثر الأمر سلباً في قدرته على القيام بالأنشطة لاحقاً، وينطبق هذا على القابلية الموسيقية التي تعدُّ بالنسبة إليه نشاطاً عقلياً؛ أي أنَّ القابلية الموسيقية للفرد تضمحل نتيجة الإهمال وعدم تنشيط الأماكن المسؤولة عن استخدامها في الدماغ، إذ إنَّ التنشيط يحدث عن طريق تعريض الشخص إلى الخبرات الموسيقية التي تدعم قابليته)، ليس فقط عن طريق تحفيز هذه القابلية لدى الطفل بتعريضه إلى خبرات موسيقية فقيرة، بل يرى أن تتعداها بتعليمه لغة الموسيقى ومكوناتها والعزف على آلة موسيقية وغيرها من المهارات؛ حيث يعمل كل هذا على تحفيز مهارات عقلية أخرى تتقاطع مع المهارات التي تزيد من القابلية الموسيقية، وذلك لاشتراكها بالمنطقة نفسها من الدماغ.
على سبيل المثال: تعدُّ الطلاقة اللغوية من هذه المهارات؛ فحينما تُحفَّز القابلية الموسيقية، تبدأ الطلاقة اللغوية بالتطور والزيادة نتيجة النشاط الدماغي الذي يحصل فـي تلك المنطقة مـن الدماغ المشتركة لكلتا القابليتين؛ كما من الأنشطة العقلية الأخرى التي تُحفَّز عند تحفيز القابلية الموسيقية هي قدرة الإنسان البصرية، والتي تتشارك أيضاً مع القابلية الموسيقية في المنطقة ذاتها من الدماغ، وتتنشط بازدياد النشـاط الدماغي بالكامل للمنطقة.
يرى غوردون أنَّ السبب في ذلك يرجع إلى أنَّ كلَّاً من الموسيقى واللغة ظاهرتان صوتيتان يعتمد الطفل في تعلمهما على الاستماع والمراقبة؛ حيث يستخدم الطفل اللغة للتواصل والغناء، ويتعلم كيف يستخدم المفردات التي تعلمها، مدركاً أهمية تناسقها وقدرته على قراءتها؛ أي أنَّه يتعلم بذلك القراءة والكتابة.
إنَّ ما يرفع القابلية اللغوية لدى الطفل مقارنة بالقابلية الموسيقية هو حقيقة أنَّ بيئة الطفل اللغوية أغنى من بيئته الموسيقية، حيث يحيط به أهله وأقاربه وأصدقاؤه مستخدمين الكلام أكثر من الغناء في التواصل معه.
لقد أكد تفسير غوردون دراسات متأخرة أشارت إلى أنَّ التدريب الموسيقي يطور بشكل مادي فيزيائي الجزء الأيسر من الدماغ المسؤول عن المعالجة النحوية والتركيبية للغة، ويؤكد ذلك الموسيقي الممارس والأستاذ في علم النفس السريري للأطفال في جامعة ييل للطب (Medicine of School Yale) "د. بروت كايل" (Pruett Kyle) حيث يقول: "يميل التطور اللغوي عند الطفل مع الوقت إلى تحفيز أجزاء من الدماغ تساعد في العمليات الموسيقية، وتقوي الخبرة الموسيقية قدرة الكفاءة اللفظية لدى الطفل".
في حين قدم "تشارلز ليمب" (Charles Limb) -طبيب وموسيقي يبحث في طريقة عمل الإبداع الموسيقي في الدماغ- في إحدى محاضراته عن تأثير عمليات زراعة القوقعة في حياة مرضاه، رسماً بيانياً يشير إلى مدى الترددات التي تستطيع الأذن البشرية سماعها، وتوزيع الترددات الخاصة باللغة والموسيقى داخل هذا النطاق الخاص بالسمع.
سترى بوضوح في الرسم البياني أنَّ نطاق الترددات الموسيقية (يظهر في الشكل باللون الوردي) أوسع بكثير من نطاق الترددات المستخدمة لسماع اللغة (يظهر بلون أخضر في الشكل).
أي أنَّ كلا الظاهرتين تشتركان في الترددات الصوتية التي تستقبلها الأذن ويعالجها الدماغ، وقد يكون هذا تفسيراً آخر إضافياً لكون مناطق الدماغ التي تعالج الموسيقى تشترك في معالجتها للغة أيضاً؛ ولتفسير ذلك يقول د. ليمب: "حين تستمع إلى كلمة ما، فكل ما يعنيك أن تكون مفهومة لك بطريقة صحيحة، ولا تهتم إن كان وقعها الموسيقي يبدو جميلاً أم لا، فاللغة دقيقة جداً مقارنة بالموسيقى، والتي إن لم تكن جيدة وذات نغم مريح، فما المغزى من الاستماع إليها؟"؛ فالموسيقى برأي الدكتور ليمب هي "ذروة الاستماع"، فإن كنت قادراً على سماع الموسيقى، فأنت قادر على سماع أي شيء.
للموسيقى خصائصها الخاصة التي لا تتوفر في الكلمة المسموعة، حيث يتعامل الدماغ معها بصورة مختلفة تماماً؛ فعلى سبيل المثال: أنت قادر على سماع وإدراك النغمة، وهي اللبنة الأساسية للموسيقى؛ كما أنَّك قادر على تمييز أصوات مختلف الأدوات الموسيقية، حتى لو لم تكن لديك المعرفة والدراية الكافية بأسمائها؛ كما أنَّك قادر على تحديد جودة الصوت من عدمه، ووصفه بالدافئ والمريح أو العكس.
يؤكد ليمب ما سبق واستعرضناه في هذه المقالة بأنَّ الهدف من الدخول في أي تجربة تعلم بالنسبة إلى الدماغ هي بناء مزيد من الروابط العصبية بين الخلايا الدماغية، حيث إنَّ كل خلية قادرة لوحدها على بناء روابط تَصلُ إلى عشرة آلاف ارتباط لوحدها؛ فلا عجب أن تتحسن مهارات القراءة واللغة لدى الطلبة الذين يتعلمون العزف على آلة موسيقية، حيث تُظهِر صور التصوير بتقنية الرنين المغناطيسي النشاط الدماغي لدى الاستماع إلى الموسيقى الهادئة، مقارنة مع دماغ آخر يتعرض إلى معلومات كلامية فقط دون أي موسيقى مرافقة.
في الختام:
إنَّ ما يميز فلسفة التعلم السريع استخدامها عدداً من التقنيات المبنية على الدراسات الخاصة بالدماغ وكيفية عمله؛ وذلك لاستثمارها في تسريع عملية التعلم ورفع كفاءة المتعلمين، من خلال توليد حالة ذهنية للإبداع وليس للتعلم فحسب.
يمكن إدخال الموسيقى إلى عملية التعلم بطريقة مدروسة تساعد على الاسترخاء، وخلق مزاج عام إيجابي تجاه التعلم والمكان والمادة التعليمية؛ كما يمكن إدخال الموسيقى المناسبة في عمليات توليد الأفكار، وحل المسائل الحسابية والمنطقية الصعبة.
أخيراً، لك الخيار في تجربة كيف يمكن للموسيقى رفع كفاءة أدائك أو أداء متعلميك، ويمكنك ذلك من خلال إضافة عنصر الموسيقى إلى مهمات متعلقة بالتعلم، خاصة المهمات التي ترتبط بمهارات القراءة والكتابة والحساب، وقياس الأثر والنتائج العجيبة التي تتركها على أداء ونفسية المتعلمين.
نشر المقال لأول مرة في موقع النجاح نت للكاتبة المدربة سميه الشمري
المراجع:
- كتاب التعلم السريع – أطلق الطفل الذي بداخلك – تأليف الدكتور المعمار محمد إبراهيم بدرة
- كتاب التعلم السريع – دليلك المبدع لتصميم وتنفيذ برامج تدريبية أسرع وأكثر فعالية – تأليف ديف ماير، الإشراف العلمي: م. محمد بدرة
- The Mozart effect
- The Influence of Background Music on Learning in the Light of Different
- Can Music Foster Learning
- Pregnancy music: the effect on unborn babies
- A popular class breaks down how our brains respond to music
- اللغة الموسيقية
- لغة الموسيقى: مقدمة في سيميائيات الموسيقى – فادي حنّا
- أثر تعليم الموسيقى في المدرسة على الصحة النفسية للطلبة وتحفيزهم على التعّلم
- بناء العضلة الموسيقية
- Wave, Sound, and Music
- Ludwig van Beethoven Biography
- How Much Does Listening to Music Affect Your Studying?
- Research Suggests Positive Impact of Music Education
- The Benefits of Studying with Music