يستغلُّ معظم الناس بداية العام توقيتاً لوضع أهدافهم التي يرغبون في إنجازها خلال العام الجديد، واتخاذ قرارات قد تتضمن تبنِّي عادات صحية، وزيادة الدخل، أو الإنتاجية، أو تعزيز التوازن بين العمل والمنزل، على سبيل المثال؛ وذلك لأنَّ البدايات كثيراً ما تحمل معها مشاعر الحماسة للإنجاز، وترفع الهمم لتحقيق الآمال، ممَّا يُسهم في تهيئة الإنسان ودفعه إلى بذل الجهد اللازم لتحقيق هذه الأهداف.
في حين تشير الدراسات إلى أنَّ نسبة كبيرة من الناس تتخلى عن أهدافها بعد وقت قصير؛ حيث وجد الباحثون أنَّ 25% منهم يتخلى عن قراراته بعد 7 أيام فقط، فيما يتخلى 60% منهم عن قراراته خلال 6 أشهر؛ وذلك لعدد من الأسباب المتعلقة بالشخص نفسه، وأحياناً بالهدف ذاته، وهذا المقال نُقدِّم لك عزيزنا القارئ 3 خطوات لمساعدتك على التغلب على هذا التحدي وعدم التخلي عنها في منتصف الطريق.
الأهداف المكتوبة مقابل الأهداف غير المكتوبة:
الدكتورة "جايل ماثيوز" (Gail Matthews) طبيبة نفسية ومدربة حياة، ترأست قسم علم النفس في جامعة الدومينيكان بكاليفورنيا في الفترة بين 1977-1999م، قامت بدراسة عن كيفية تأثُّر تحقيق الهدف في مكان العمل، بكتابة الأهداف، والالتزام بالإجراءات الموجِّهة نحو الهدف، والمُساءلة عن تلك الإجراءات، وفي دراستها، قامت بالاستعانة بـ 267 مشاركاً تتراوح أعمارهم بين 23 إلى 73 عاماً، من خلفيات متنوعة في الولايات المتحدة الأمريكية.
قسَّمت المشاركين إلى خمس مجموعات تقسيماً عشوائياً، وطلبت من المجموعة الأولى التفكير ببساطة في أهدافهم المتعلقة بعملهم، والتي كانوا يأملون في تحقيقها خلال فترة أربعة أسابيع، وتقييم كل هدف وفقاً للصعوبة والأهمية ومدى امتلاكهم المهارات والموارد اللازمة لتحقيق الهدف، الالتزام والتحفيز.
فيما طُلب من بقية المجموعات كتابة أهدافهم، ثم تصنيفها على الأبعاد نفسها التي أُعطيت إلى المجموعة الأولى، وإضافة لذلك، طُلب من المجموعة الثالثة كتابة الإجراءات التي سيلتزمون بها لكل هدف.
وكان على المجموعة الرابعة كتابة الأهداف والإجراءات التي سيلتزمون بها، بالإضافة إلى مشاركة هذه الالتزامات مع صديق، فيما ذهبت المجموعة الخامسة إلى أبعد نقطة، من خلال القيام بكل ما سبق بالإضافة إلى إرسال تقرير مرحلي أسبوعي إلى صديق.
في نهاية الدراسة، حقَّق الأفراد في المجموعة الأولى 43% فقط من أهدافهم المُعلَنة، في حين حقَّق أفراد المجموعة الرابعة 64% من أهدافهم المُعلَنة، بينما كانت أهداف المجموعة الخامسة، الأكثر نجاحاً؛ حيث تم تحقيق 76% من أهدافهم في المتوسط.
ماذا نتعلم من هذه الدراسة؟
نجاحك في تحقيق أهدافك قائم على 3 خطوات:
1. كتابة الأهداف:
يقول علماء النفس إنَّك حين تكتب أهدافك، فإنَّ تحوُّلاً في هويتك الذاتية يحدث بطريقة حقيقية؛ وذلك لأنَّ الدماغ لا يميِّز بين الحقيقة والخيال، ويرى أنَّ كل ما لديه حقيقة، ويعمل دائماً على إثباتها؛ أي أنَّ الدماغ لا يستطيع التمييز بين ما نريد وما لدينا، فيمتص النتيجة المرجو تحققها في هويتك الذاتية على الفور، ويجعلها جزءاً أساسياً منها.
ولكن إذا لم نحقق الهدف بعد، فإنَّ صورتنا الذاتية التي تم الحصول عليها حديثاً، لم تعد تتوافق مع واقعنا، وهذا يؤدي إلى حالة من التوتر المستمر عن صورتنا الذاتية، التي يبدأ الدماغ محاولة حلها من خلال العمل على تحقيق الأهداف؛ لذلك فإنَّ النصيحة التي يقدمها لك علماء النفس بهذا الصدد، هي ألَّا تتسرع في تحديد الأهداف باستخفاف؛ وذلك لأنَّ تحديد الهدف سيكون له أثر فوري في هويتك، أنت بحاجة إلى التأكُّد من وضع هدف مناسب ومدروس جيداً.
2. الالتزام بالأهداف:
الخطوة التالية لدفعك نحو الالتزام بأهدافك، هي صياغتها صياغةً تجعلها واضحة لك، يقول د. "ديفيد كوهل": "حتى تطلق أهدافك العنان لعقلك اللاواعي، يجب أن تكون قابلةً للقياس ومُحدَّداً تحققها بفترة زمنية؛ لذا تذكَّر أنَّ الأهداف المبهمة تقود إلى نتائج مبهمة، وإن كانت أهدافك خالية من هذه القياسات، فهي ببساطة أفكارٌ جيدةٌ أو أُمنيةٌ أو تفضيل، ولكن لا يمكنعَدُّها أهدافاً حقيقية"، والأهداف الجيدة التي يمكن تحقيقها يجب أن تتوافر فيها الشروط الآتية:
- أن تكون مُحدَّدةً، واضحةً ودقيقةً.
- قابلة للقياس، تمنحك والآخرين القدرة على متابعة تقدُّمك.
- قابلة للإنجاز، تحمل تحدياً لك وفي الوقت نفسه قابلة للإنجاز.
- ذات صلة، مرتبطة بأهداف حياتك العامة.
- مقيدة بزمن، مرتبطة بتوقيت نهائي.
وجد الدكتور "كوهل" في دراسةٍ قام بها، أنَّ الأمريكيين الذين يدوِّنون أهدافهم ويراجعونها بانتظام، يكسبون أموالاً على مدار حياتهم أكثر بتسع مرات ممَّن لا يحددون أهدافهم، وليس ذلك فحسب؛ بل عليك قراءتها بصوت عالٍ إن أمكن؛ وذلك لأنَّ قراءة الأهداف بصوت عالٍ وبشغف وحماسة، وتخيُّل كما لو أنَّ كل هدف قد تحقق، سينشط قوة رغباتك ويزيد ما يسميه علماء النفس "التوتر البنائي" في دماغك؛ حيث يسعى دماغك إلى سدِّ الفجوة بين واقعك الحالي ورؤيتك لهدفك، ومن ثمَّ فإنَّ تكرار قراءتها وتخيُّلها يعمل على زيادة التوتر البنائي، وزيادة الدوافع أكثر فأكثر، ممَّا يحفز قدرتك الإبداعية، ويرفع وعيك بالمصادر التي يمكن أن تساعدك على تحقيق أهدافك.
في الوقت نفسه، يخبرنا علم النفس أنَّ الدماغ يمتلك آلية معقدة للمكافأة والعقاب، فمع كل إنجاز تحرزه على طريق تحقيق أهدافك، يطلق الدماغ "الدوبامين" في أجسادنا، ممَّا يخلق إحساساً بالمتعة، وهذا الارتفاع الكيميائي في المزاج يبقينا متحفزين ومركزين، ومن ثمَّ نحن نشعر بالراحة الجسدية عندما نتخذ خطوات نحو أهدافنا.
ولتفعيل هذه الأحاسيس، ينصح علماء النفس بتقسيم الأهداف طويلة الأمد إلى أهداف قصيرة الأمد، من خلال خطوات عدة قابلة للقياس، ومن ثمَّ أنت تضع نظام مكافأة منتظم للدافع الناجم عن إفراز "الدوبامين" في جسدك؛ لذا قسِّم الهدف إلى درجة تكون فيها الخطوات الأولى بسيطة جداً، لإبقاء عقلك على المسار الصحيح نحو تحقيق هدف رئيس.
3. المُساءلة:
إن كنت جادَّاً حول تحقيق أهدافك، فأنت بحاجة إلى نظام دعم خارجي تُعلِن أمامه أهدافك والتزامك بتحقيقها، يمكنه متابعة تقدُّمك، ودعمك نفسياً وعاطفياً خلال تقدُّمك في تحقيق أهدافك، ومن المهم أن تدرك حقيقة أنَّك بمجرد أن تحدد هدفاً، ستبرز ثلاثة أشياء تُوقِف معظم الناس عن الاستمرار في طريق تحقيق أهدافهم، وهي الهموم، والمخاوف، والعوائق؛ لذا تذكَّر أنَّ هذه الأشياء هي جزء من العملية، وعليك أن تكون واعٍ لها، وتعالجها بدلاً من أن تدعها توقفك.
يؤكد علماء النفس بأنَّ هذا أمر طبيعي، كون الطبيعة البشرية تميل إلى البقاء في منطقة الراحة الخاصة بها، فتحديد الأهداف يعني ببساطة شديدة للدماغ الخروج من الطريق السهل، ورفع شعار (دعونا نبذل أقصى جهدنا) المرتبط بكثيرٍ من الأفكار حول الألم الناجم عن احتمال الفشل في تحقيق الأهداف، وبالوقت نفسه، تحرمك هذه الأفكار من تذوُّق الطعم الرائع لتجربة الرضا والنمو الناتج عن تحقيق الأهداف.
الهموم هي ببساطة، كل الأفكار التي تظهر على السطح، والتي تمنحك الأسباب لعدم محاولة تحقيق الهدف، وهذه الأسباب تجعل الهدف مستحيلَ التحقق بالنسبة إلى الدماغ، متسببةً في إيقافك طوال الوقت، وبما أنَّها ظهرت إلى حيِّز الإدراك والوعي، فأنت قادر على أن تتعامل معها وتواجهها وتتجاوزها، على سبيل المثال: لديك هدفٌ أن تشارك في الماراثون في نهاية العام الحالي، ستظهر على السطح هموم من مثل: "أنت كبير في السن" أو "قد تتعرض للإصابة" أو "عليك أن تستيقظ ساعتين مبكراً كل يوم صيفاً وشتاءً"، وهنا عليك أن تتوقف وتسأل نفسك، هل أنا مستعد لدفع هذا الثمن من الانزعاج مقابل تحقيق هدفي؟
أمَّا المخاوف، فهي مشاعر قد تظهر بصورة خوف من الرفض، خوف من الفشل، خوف من أنَّ ما تملكه من معرفة ومهارات غير كافٍ، خوف من جعل نفسك أضحوكة، أو من أن تُجرَح نفسياً وجسدياً وعاطفياً، خوف من خسارة المال، وغيرها من المخاوف، ولكن عليك أن تعرف أنَّ هذه المخاوف معتاد ظهورها، وهذا جزء من عملية تحقيق الأهداف، وكل ما عليك فعله حال ظهورها، أن تتقبلها وتتعامل معها بمنطق: ماذا لو لم يحصل ما أخشاه؟ ماذا لو حصل ما أرجوه، كيف ستكون مشاعري حينها؟ وابدأ عيش المشاعر التي ترغب حقاً في تذوقها.
أمَّا العوائق، فهي ظروف خارجية تتجاوز الأفكار والمشاعر، جزء من الواقع الذي تعيشه، قد تكون افتقارك إلى المال الكافي لبدء مشروعك، ربما أنت بحاجة إلى مستثمرين، ربما هناك قوانينٌ في البلد الذي تعيش فيه تعوق تقدُّمك في مشروعك، ماذا تفعل حينها؟ اعلم أنَّ هذه العوائق تظهر كلما كان هدفك أكبر، فهي عقبات يُلقيها العالم أمام طريق تقدُّمك، ويختبر بها مدى تمسُّكك والتزامك وإصرارك على تحقيق هذه الأهداف.
تذكَّر أنَّ العوائق مثلها مثل الهموم والمخاوف، مجرد أشياء عليك أن تتعامل معها، لا تعدها أبداً علامة للتوقف؛ بل هي مؤشر على أنَّك تتعلم تعلُّماً صحيحاً عنك وعن محيطك، وأنَّ قدرتك على حل وتجاوز هذه العوائق بطريقة إبداعية ومبتكرة، كافٍ ليرتقي بك وبقدراتك، وهذه البيئة تمنحك الإمكانات الحقيقية للتطور الذاتي.
إنَّ الهدف من التغلُّب على هذه الهموم والمخاوف والعوائق، هو التطور الذاتي الذي ستحققه لك عملية مواجهتها وعلاجها والتعامل معها، وليست المكافآت المادية التي ستحصل عليها في حال تغلُّبك عليها وتحقيق هدفك، وفرصة التعلم التي تكتسبها، لا يمكن أن تُسلَب منك أبداً؛ وذلك لأنَّها ستكون المفتاح لإظهار النسخة الأفضل منك.
يتجنب الدماغ الحرمان الذي سيعانيه إذا فشلتَ في تحقيق أهدافك؛ وذلك لأنَّ الفشل في تحقيق الهدف يعني انقطاع إمداد "الدوبامين"، وهو أمر مؤلم بحد ذاته؛ حيث إن دماغنا يتعامل مع الهدف على أنَّه ملكية ذات قيمة؛ لذا فإنَّ الفشل في تحقيقه يثير مشاعر الخسارة والقلق والخوف والحزن، فماذا عليك أن تفعل لتجنب ذلك؟
- أولاً، كن على وعي بأنَّ هذه المخاطر سيكون لها أثر نفسي سلبي فيك.
- ثانياً، افتح حواراً مع الأشخاص الذين تثق بهم، أو الشخص الذي يقوم بمتابعتك في تحقيق أهدافك، حول الحلول الممكنة للتغلب على العوائق، والطريقة الأنسب لمعالجة الهموم والمخاوف.
في الختام:
تحدثنا في هذا المقال عن 3 خطوات رئيسة وهامة لمساعدتك على عدم التخلِّي عن تحقيق أهدافك، وهي أولاً كتابتها، ثانياً الالتزام بها من خلال صياغتها صياغةً واضحة، وأخيراً إنشاء نظام مُساءلة، ودعم لمتابعة تقدُّمك، وتقديم الدعم النفسي والعاطفي عند الحاجة.
ما أنت بحاجة إلى البدء بعمله اليوم، هو وقفة تأمُّل لجوانب حياتك المختلفة، ما حققته بالفعل من إنجازات، والتفكير فيما تطمح أن تصل إليه في الأمد المنظور، قد يكون عاماً أو أكثر؛ لذا دوِّن أفكارك، أو أكبر عدد ممكن من الأفكار، والخطوة التالية هي مراجعة أفكارك والتأكد من أنَّها تغطي جوانب حياتك جميعها، ثم أعِد صياغتها إلى أهداف أكثر وضوحاً، تلبِّي الشروط الخمسة للهدف والتي ذُكرت في المقال، والخطوة الأخيرة والأهم، هي إنشاء نظام دعم خاص بك من الأصدقاء أو العائلة، والأفضل بكل تأكيد أن تستعين بكوتش أو منتور متخصص ذي خبرة، لمتابعة تقدُّمك في تحقيق أهدافك وتقديم الدعم اللازم.
بقلم: المدربة سمية الشمري
المراجع:
- كتاب مبادئ النجاح كيف تتحول مما أنت عليه إلى ما تريد أن تصبح عليه – جاك كانفيلد.
- مقال (The Psychology of Goal Setting) للكاتبة (Anna Kegler).